للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الباب الحادي عشر في ذكر تلبيس إبليس على المتدينين بما يشبه الكرامات

قد بينا فيما تقدم أن إبليس إنما يتمكن من الإنسان على قدر قلة العلم، فكلما قل علم الإنسان كثر تمكن إبليس منه، وكلما كثر العلم قل تمكنه منه. ومن العباد من يرى ضوءا أو نورا في السماء، فان كان في رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره، قال: قد فتحت لي أبواب السماء. وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة، وربما كان اتفاقا وربما كان اختبارا وربما كان من خدع إبليس. والعاقل لا يساكن (١) شيئا من هذا ولو كان كرامة.

وقد ذكرنا في باب الزهاد عن مالك بن دينار وحبيب العجمي أنهما قالا: إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز.

ولقد استغوى بعض ضعفاء الزهاد بأن أراه ما يشبه الكرامة حتى أدعى النبوة، فروي عن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: ثنا محمد بن المبارك، ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان، قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالغوطة تعرض له إبليس، وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرأيت عليه زهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يصغ السامعون إلى كلام أحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه يا بتاه عجل علي فإني قد رأيت أشياء أتخوف منها ان تكون من الشيطان، قال: فزاده أبوه غيا (٢)، وكتب إليه: يا بني، أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم﴾ (الشعراء: ٢٢٢). ولست بأفاك ولا أثيم فأمض لما أمرت به. وكان يجئ الى أهل المساجد رجلا رجلا فيذكر لهم أمره، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق إن هو رأى ما يرضى قبل وإلا كتم عليه. وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح. وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: أخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرجهم إلى دير المران فيريهم رجالا على الاعتمال


(١) ساكنه في دار واحدة: سكنها واياه.
(٢) ضلالا.

<<  <   >  >>