للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

علم الناس بانفراده وربما احتج لانقطاعه باني أخاف أن أرى في خروجي المنكرات. وله في ذلك مقاصد: منها الكبر واحتقار الناس. ومنها أنه يخاف أن يقصروا في خدمته. ومنها حفظ ناموسه (١) ورياسته فان مخالطة الناس تذهب ذلك، وهو يريد أن يبقى إطراؤه وذكره. وربما كان مقصوده ستر عيوبه ومقابحه وجهله بالعلم فيرى هذا ويجب أن يزار ولا يزور ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع العوام على بابه وتقبيلهم يده. فهو يترك عيادة المرضى وشهود الجنائز ويقول أصحابه: أعذروا الشيخ فهذه عادته - لا كانت عادة تخالف الشريعة. ولو احتاج هذا الشخص إلى القوت ولم يكن عنده من يشتريه له صبر على الجوع لئلا يخرج لشراء ذلك بنفسه فيضيع جاهه لمشيه بين العوام. ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت عنه الشهرة ولكن في باطنه حفظ الناموس. وقد كان رسول الله يخرج إلى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه (٢). وكان أبو بكر يحمل الثياب على كتفه فيبيع ويشتري. والحديث بإسناد عن محمد بن القاسم قال: روي عن عبد الله بن حنظلة قال: مر عبد الله بن سلام وعلى رأسه حزمة حطب، فقال له ناس: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله؟ قال: أردت أن أدفع به الكبر، وذلك إني سمعت رسول الله يقول: ﴿لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر﴾ (٣).

فصل

قال المصنف: وهذا الذي ذكرته من الخروج لشراء الحاجة ونحوها من التبذل كان عادة السلف القدماء وقد تغيرت تلك العادة كما تغيرت الأحوال والملابس. فلا أرى للعالم أن يخرج اليوم لشراء حاجته لأن ذلك يكشف نور العلم (٤) عند الجهلة وتعظيمه عندهم مشروع. ومراعاة قلوبهم في مثل هذا


(١) الناموس: بيت الراهب، أو الغرفة التي يكمن فيها الصائد للصيد، والناموس: صاحب السر المطلع على باطن أمرك، والناموس: المكر والخداع.
(٢) في «الشمائل» عن عائشة قالت: كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه.
(٣) قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (٥/ ١٨٧): رواه الطبراني بإسناد حسن.
(٤) لا نوافق المصنف على هذا الرأي فللعالم في رسول الله أسوة حسنة، وفي التواضع كل الخير.

<<  <   >  >>