للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال: أحب أن تفطر عليها، فقال: يا شقيق وأنت تحدثك نفسك أن تبقى

إلى الليل؟ لا كلمتك أبدا، فأغلق الباب في وجهي ودخل.

قال المصنف : أنظروا إلى هذا الفقه الدقيق كيف هجر مسلما على فعل جائز، بل مندوب، لأن الإنسان مأمور أن يستعد لنفسه بما يفطر عليه، واستعداد الشئ قبل مجيء وقته حزم، ولذلك قال الله ﷿: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة﴾ (الأنفال: ٦٠). وقد أدخر رسول الله لأزواجه قوت سنة (١)، وجاء عمر بنصف ماله وأدخر الباقي ولم ينكر عليه، فالجهل بالعلم أفسد هؤلاء الزهاد.

وباسناد عن أحمد بن إسحاق العماني، قال: رأيت بالهند شيخا، وكان يعرف بالصابر قد أتى عليه مائة سنة قد غمض إحدى عينيه، فقلت له: يا صابر ما بلغ من صبرك؟ قال: إني هويت النظر إلى زينة الدنيا فلم أحب أن أشتفي (٢) منها، فغمضت عيني منذ ثمانين سنة فلم أفتحها.

وقد حكى لنا عن آخر، انه قير احد عينيه، وقال: النظر إلى الدنيا بعينين إسراف.

قلت: كان قصده أن ينظر إلى الدنيا بفرد عين، ونحن نسأل الله سلامة العقول.

وقد حكى يوسف بن أيوب الهمداني عن شيخه عبد الله الجوني أنه كان يقول: هذه الدولة (٣) ما أخرجتها من المحراب بل من موضع الخلاء. وقال: كنت أخدم في الخلاء، فينما أنا يوما أكنسه وأنظفه، قالت لي نفسي: أذهبت عمرك في هذا؟ فقلت: أنت تأنفين من خدمة عباد الله، فوسعت رأس البئر ورميت نفسي فيها، وجعلت أدخل النجاسة في فمي، فجاؤوا وأخرجوني وغسلوني.

قلت: أنظروا إلى هذا المسكين كيف اعتقد جمع الأصحاب خلفه دولة، واعتقد أن تلك الدولة إنما حصلت بإلقاء نفسه في النجاسة وادخالها.


(١) رواه مسلم في «الجهاد» باب حكم الفيء.
(٢) اشتفى بكذا: نال به الشفاء.
(٣) لعلها الدالة بمعنى الشهرة. اما الدولة فهو ما يتداول فيكون لهذا مرة ولهذا مرة.

<<  <   >  >>