للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد جاء في الحديث «الأكل في السوق دناءة» (١)، فإن الله قد أكرم الآدمي وجعل لكثير من الناس من يخدمه، فليس من الدين إذلال الرجل نفسه بين الناس. وقد تسمى قوم من الصوفية بالملامتية فاقتحموا الذنوب، فقالوا: مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من آفات الجاه والمرائين. وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بأمرأة فاحبلها. فقيل له: لم لا تعزل، فقال: بلغني أن العزل مكروه، فقيل له: وما بلغك أن الزنا حرام. وهؤلاء الجهلة قد أسقطوا جاههم عند الله سبحانه، ونسوا أن المسلمين شهداء الله في الأرض.

أخبرنا ابن حبيب، نا ابن اب صادق، نا ابن باكوه، قال: سمعت أبا أحمد الصغير سمعت أبا عبد الله بن خفيف، سمعت أبا الحسن المديني يقول: خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية، وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا، فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة (٢) فجمعتها، وقلت: هذه لفقير، ومشيت قليلا، فسمعت همهمة وتخبيطا في الماء، فنظرت فإذا بأبي الحسن النوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له فنزلت إليه فنظر إلي، وقال: يا أبا الحسن، أما ترى ما يعمل بي!! قد أماتني موتات، وقال لي: مالك منا ألا الذكر الذي لسائر الناس، وأخذ يبكي ويقول: ترى ما يفعل بي. فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل، فأقمنا عنده إلى العصر، ثم خرجنا إلى المسجد، فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويغلقون الأبواب ويصعدون السطوح، فسألناهم فقالوا: السباع تدخل القرية بالليل، وكان حوالي القرية أجمة عظيمة وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين. فلما سمع النوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الاجمة على أصول القصب المقطوع، وهو يصيح ويقول: أين أنت يا سبع. فما شككنا أن الأسد قد أفترسه أو قد هلك في أصول القصب، فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه، فأخذنا بالمنقاش (٣) ما قدرنا عليه، فبقي أربعين يوما لا يمثنى على رجليه،


(١) حديث ضعيف رواه الطبراني في «الكبير» عن ابي أمامة والخطيب في «التاريخ» عن أبي هريرة.
(٢) تصغير خرقة وهي قطعة من الثوب.
(٣) ما ينقش به أي يستخرج بواسطته الشوك من الجسم.

<<  <   >  >>