قال المصنف: وهؤلاء القوم انما اقعدوا في المسجد ضرورة. وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة. فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال وخرجوا. ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط لأنه لو كان كذلك لقيل صفي. وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة وهي بقلة رعناء قصيرة. فنسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء، وهذا أيضا غلط لأنه لو نسبوا إليها لقيل: صوفاني. وقال آخرون: هو منسوب إلى صوفة القفا وهي الشعرات النابتة في مؤخره كأن الصوفي عطف به إلى الحق وصرفه عن الخلق. وقال آخرون: بل هو منسوب إلى الصوف، وهذا يحتمل. والصحيح الأول.
وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس. ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى.
والحديث بإسناد عن الطوسي يقول: سمعت أبا بكر بن المثاقف يقول: سألت الجنيد بن محمد عن التصوف، فقال: الخروج عن كل خلق رديء، والدخول في كل خلق سني (١). وبإسناد عن عبد الواحد بن بكر، قال: سمعت محمد بن خفيف يقول: قال: رويم كل الخلق قعدوا على الرسوم. وقعدت هذه الطائفة على الحقائق. وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق.
قال المصنف: وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن.
وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح أبدانهم، وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الاحاديث الموضوعة وهو لا يدرى.