للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العبادة، وجعلوا تلك وسائل على زعمهم. ومنهم من وحد إلا أنه أسقط العبادات، وقال: هذه أشياء نصبت للعوام لعدم المعارف، وهذا نوع شرك، لأن الله ﷿ لما علم أن معرفته ذات قعر بعيد وجو عال، وبعيد أن يتقي من لم يعرف خوف النار، لأن الخلق قد عرفوا قدر لذعها، وقال لأهل المعرفة: ﴿ويُحَذِّرُكُم الله نفسه﴾ (آل عمران: ٢٨) واعلم أن المتعبدات أكثرها تقتضي الإنس بالأمثال، ووضع الجهات والامكنة والابنية والحجارة للنسك (١) والاستقبال، فأبان عن حقائق الإيمان به فقال: ﴿ليس الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ولكن البر من آمن بالله﴾ (البقرة: ١٧٧) وقال: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا﴾ (الحج: ٣٧) فعلم أن المعول على المقاصد ولا يكفي مجرد المعارف من غير امتثال كما تعول عليه الملحدة الباطنية وشطاح الصوفية.

وبإسناد عن أبي القاسم بن علي بن المحسن التنوخي عن أبيه، قال: أخبرني جماعة من أهل العلم، أن بشيراز رجلا يعرف بابن خفيف البغدادي، شيخ الصوفية هناك، يجتمعون اليه، فيتكلم على الخطرات والوساوس، ويحضر حلقته ألوف من الناس، وأنه فاره (٢) فهم حاذق. فاستغوى الضعفاء من الناس إلى هذا المذهب، قال: فمات رجل منهم من أصحابه وخلف زوجة صوفية، فاجتمع النساء الصوفيات - وهن خلق كثير - ولم يختلط بمأتمهن غيرهن. فلما فرغوا من دفنه دخل ابن خفيف وخواص أصحابه - وهم عدد كثير إلى الدار - وأخذ يعزي المرأة بكلام الصوفية إلى أن قالت: قد تعزيت، فقال لها: ها هنا غير، فقالت: لا غير، قال: فما معنى إلزام النفوس آفات الغموم، وتعذيبها بعذاب الهموم، ولأى معنى نترك الامتزاج لتلتقى الانوار، وتصفو الارواح ويقع الاخلافات، وتنزل البركات. قال: فقالت النساء: إذا شئت، قال: فاختلط جماعة الرجال بجماعة النساء طول ليلتهم، فلما كان سحر خرجوا.

قال المحسن: قوله هاهنا غير، أى هاهنا غير موافق المذهب، فقالت: لا غير أي ليس مخالف، وقوله: نترك الامتزاج كناية عن الممازجة في الوطء. وقوله: لتلتقي الأنوار عندهم أن في كل جسم نورا الهيا. وقوله: الاخلافات أي يكون لكن خلف ممن مات أو غاب من أزواجكن.

قال المحسن: وهذا عندي عظيم، ولولا أن جماعة يخبروني يبعدون


(١) نسك البيت: أتاه.
(٢) ماهر.

<<  <   >  >>