للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر: تعال نسد رأس هذا البئر في هذا الطريق، فأتوا بقصب وبارية (١) فهمهمت، فقلت: إلى من هو أقرب إليك منهما، وسكت حتى طموا رأس البئر، فإذا بشيء قد جاء فكشف عن رأس البئر ودلي رجليه، وكان يقول في همهمة له: تعلق بي فتعلقت به، فأخرجني فنظرت فإذا هو سبع، فهتف بي هاتف وهو يقول: يا أبا حمزة أليس ذا حسن نجيناك من التلف بالتلف.

أخبرنا أبو منصور القزاز، نا أحمد بن علي بن ثابت، نا أبو القاسم رضوان بن محمد بن الحسن الدينوري، قال: سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نعيم يحكي عن أبي حمزة الصوفي الدمشقي أنه لما خرج من البئر أنشد يقول:

نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى … فأغنيتني بالقرب منك عن الكشف

تراءيت لي بالغيب حتى كأنني … تبشرني بالغيب إنك في الكف

أراك وبي من هيبتي لك وحشة … وتؤنسنى بالعطف منك وباللطف

وتحيى محبا أنت في الحب حتفه … وذا عجب كون الحياة مع الحتف

قال المصنف : قلت: اختلفوا في أبي حمزة هذا الواقع في البئر، فقال أبو عبد الرحمن السلمي: هو أبو حمزة الخراساني وكان من أقران الجنيد. وقد ذكرنا في رواية أخرى أنه دمشقي. وقال أبو نعيم الحافظ: هو أبو حمزة البغدادي واسمه محمد بن إبراهيم، وذكره الخطيب في «تاريخه» وذكر له هذه الحكاية. وأيهم كان فهو مخطئ في فعله مخالف للشرع بسكوته معين بصمته على نفسه، وقد كان يجب عليه أن يصيح ويمنع من طم البئر، كما يجب عليه أن يدفع عن نفسه من يقصد قتله. وقوله: لا أستغيث كقول القائل: لا آكل الطعام ولا أشرب الماء، وهذا جهل من فاعله ومخالفة الحكمة في وضع الدنيا، فإن الله تعالى وضع الاشياء على حكمة فجعل للآدمى يدا يدفع بها ولسانا ينطق به وعقلا يهديه إلى دفع المضار واجتلاب المصالح. وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميين، فمن أعرض عن استعمال ما خلق له وأرشد إليه فقد رفض أمر الشرع وعطل حكمة الصانع. فإن قال جاهل: فكيف أحترز مع أمر القدر؟ قلنا: وكيف لا يحترز مع أمر المقدر، وقد قال الله تعالى: ﴿خذوا حذركم﴾ (النساء: ٧١) وقد اختفى النبي في الغار، وقال لسراقة: «اخف عنا»


(١) البارية: الحصير المنسوج.

<<  <   >  >>