للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ (١) الوسع في التحفظ، فقال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فتوكل على الله﴾ (آل عمران: ١٥٩) فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا في التوكل لما خص الله به نبيه حين قال له: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وهل المشاورة الا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو، ولم يقنع في الاحتياط بأن يكله (٢) إلى رأيهم واجتهادهم حتى نص عليه، وجعله عملا في نفس الصلاة وهي أخص العبادات. فقال: «فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ» وبين علة ذلك بقوله تعالى: «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فيميلون عليكم ميلة واحدة» (النساء: ١٠٢) ومن علم ان الاحتياط هكذا لا يقول: أن التوكل عليه ترك ما علم. لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة. قال : «اعقلها وتوكل» ولو كان التوكل ترك التحرز لخص به خير الخلق في خير الأحوال وهي حالة الصلاة. وقد ذهب الشافعي إلى وجوب حمل السلاح حينئذ لقوله: «وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ» فالتوكل لا يمنع من الاحتياط والاحتراز، فإن موسى لما قيل له: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» (٣) خرج. ونبينا خرج من مكة لخوفه من المتآمرين عليه ووقاه أبو بكر بسد أثقاب الغار (٤). وأعطى القوم التحرز حقه، ثم توكلوا، وقال ﷿ في باب الاحتياط: «لا تَقْصُصْ رؤياك على اخوتك» (يوسف: ٥) «لا تدخلوا من باب واحد» (يوسف ٦٧) وقال: «فامشوا في مناكبها» (الملك: ١٥) وهذا لأن الحركة للذب عن النفس استعمال لنعمة الله تعالى، وكما أن الله تعالى يريد اظهار نعمه المبداة يريد اظهار ودائعه، فلا وجه لتعطيل ما أودع اعتمادا على ما جاد به. لكن يجب


(١) استفرغ وسعه: بذل كل ما يمكنه من طاقة.
(٢) وكل الامر اليه: فوضه وتركه له.
(٣) يشير الى قوله تعالى: «وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج اني لك من الناصحين. فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (القصص ٢٠، ٢١).
(٤) رواه البيهقي في «دلائل النبوة» من مرسل محمد بن سيرين، والبغوي من مرسل ابن أبي مليكة، وابن هشام عن الحسن البصري، ولفظ البيهقي: «فلما انتهيا الى الغار قال ابو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار فاستبرأه» (كذا في فتح الباري ٨/ ٢٣٨).

<<  <   >  >>