المتوكل على الله أخر خلفاء بنى عباس بمصر وأفراد أسرته وجماعة كبيرة من الأمراء والقواد والقضاة، وكان الفاتح يرمى بذلك إلى غرضين: الأول تجريد مصر من أكابرها وزعمائها ليحطم بذلك عصبيتها، ويقتل قواها المعنوية، والثانى نقل تراث مصر الفنى والفكرى والصناعى، وهو الذى تكدس بالقاهرة مدى قرون طويلة إلى قسطنطينية. ويقول ابن إياس معلقا على ذلك:"وكانت هذه الواقعة من أشنع الوقائع المنكرة التى لم يقع لأهل مصر قط مثلها" ثم يعقد فصلا خاصا يذكر فيه أسماء كل من نفى إلى قسطنطينية من أكابر مصر وأعيانها ومفكريها وفنانيها.
ويفيض المؤرخ فى سرد أعمال الفاتح وجوره، وما أصاب شعب مصر من بطشه وعسفه، حتى مغادرته مصر. ثم يتتبع أخباره بعد ذلك حتى وفاته عام ٩٢٦ هـ (١٥٢٠ م) ويترجمه بهذه المناسبة ويرثيه بأبيات من نظمه. ومن الغريب أن ابن إياس يبدى فى عواطفه نحو الفاتحين ترددا واضطرابا فنراه يحمل على سليم الأول، ويعدد جرائمه ومثالبه فى حق وطنه، ثم نراه فى نفس الوقت يلقبه بالملك المظفر، ويترحم عليه حين يذكر نبأ وفاته، ويدعو بالنصر لولده وخلفه السلطان سليمان. ومن الصعب أن نضبط عواطف المؤرخ. فى هذا الموقف، وفى كثير غيره. ومن الصعب أيضا أن نتعرف حقيقة المؤثرات التى ربما دفعت قلم المؤرخ، بما قد يخالف حقيقة عواطفه. فلعله هو ينحدر من أصل شركسى أو تركي، يتأثر هنا بنوع من عصبية الجنس. ومن جهة أخرى فقد كان ابن إياس "يدون روايته، فى عهد اضطراب وفتنة، وربما كان هذا التردد بين المديح والذم، نوعا من حرية التقدير والنقد عن ابن إياس.
هذه هى رواية ابن إياس عن حوادث الفتح العثمانى - وهى وثيقة تستمد قيمتها رغم ضعف بيانها، من المعاصرة والمشاهدة. بيد أنه يجب ألا نبالغ فى تقدير مدى هذه المشاهد - فإن ابن إياس لم يكن جنديا يخترق الصفوف، ولم يكن من رجال الدولة أو القادة. والظاهر أيضا أنه كان قليل الطواف والتنقل فى تلك الأيام العصيبة التى يدون لنا حوادثها، فهو مثلا لم يحاول أن يرى سليم الأول بالرغم من إقامته فى القاهرة عدة أشهر، وهو لذلك يعتمد فى وصف شخصية على صديق رآه، ولا غرو فقد كان ابن إياس فى ذلك الحين شيخا يجاوز السبعين. وربما لحقته أوصاب المرض. غير أن ابن إياس كان أديبا ومفكرا كبيرا، يتصل بأكابر عصره - وكان فى وسعه أن يتحرى من المصادر والجهات المطلعة. وكان يشهد بعينيه كثيرا من المناظر والآثار المادية لما يدون من الحوادث. ومن ثم كانت أهمية روايته ونفاستها.