إن ما أسلفناه أثناء الحديث عن عصر الجذامي وشيوخه من شأنه أن يبرز بيئته الثقافية ويكشف عن مراحل دراسته وأطوار تعلمه، ويظهر جهوده في سبيل الدرس والتحصيل، ويصوّر ما كان عليه من عزم صادق وسعي دائب إلى العلم والمعرفة وبذلهما.
فقد كانت السمة الغالبة على عصر الجذامي هي الموسوعية التي عرف بها كتاب وأدباء العصر الموحدي، وقد أجمع كل من ترجم لهم على معرفتهم واطلاعهم؛ فهم علماء الأدب واللغات المتبحرين والمتقدمين فيها، والمبرزين في المعرفة باللغة والنحو، وهم علماء بمعاني الأشعار ومعرفتها وإتقانها وضبطها، وقد شملت الثقافة بالدرجة الأولى القواعد النحوية التي هي الأساس في ضبط التعبير وسلامته عند العرب، ثم حفظ اللغة بما يتفرع عنه من حفظ المذاهب، والإحاطة بالتاريخ الأدبي العربي كله، والتاريخ العام مما يتعلق بأخبار الأمصار والممالك، بالإضافة إلى العلوم الأخرى التي كان على الأديب أن يحيط بها كالطب والفلسفة والعدد والفقه والحديث والتفسير والفرائض.
وهذا ما وجدنا عليه أحمد بن داود الجذامي، فقد كان متقدمًا في المعرفة بالنحو والذكر للأدب، والحفظ للغة، ذا مشاركة جيدة في الطب وغيره، وحظ من قرض الشعر (١)، وبذلك مثل عصره أحسن تمثيل، ولم يكن شاذًا عما عرفته جميع تراجم رجال القرن السادس بالأندلس إذ نجد في ترجمة