للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنهم من يقول: أنا ألازم الجماعة، وأفعل الخير، وهذا يدفع عنّي. وجوابه كجواب الأوّل.

ومن هذا الفنّ تلبيسه على العيّارين في أخذ أموال النّاس؛ فإنّهم يسمّون بالفتيان، ويقولون: الفتى لا يزني ولا يكذب ويحفظ الحرم، ولا يهتك ستر امرأة، ومع هذا لا يتحاشون من أخذ أموال النّاس، وينسون تقلّي الأكباد على الأموال، ويسمّون طريقتهم الفتوّة.

وربّما حلف أحدهم بحقّ الفتوّة، فلم يأكل ولم يشرب، ويجعلون إلباس السّراويل للدّاخل في مذهبهم كإلباس الصّوفيّة للمريد المرقّعة، وربّما يسمع أحد هؤلاء عن ابنته أو أخته كلمة وزر لا تصحّ، وربّما كانت من محرّض، فقتلها، ويدّعون أنّ هذه فتوّة، وربّما افتخر أحدهم بالصّبر على الضّرب.

وبإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنّه كان يقول: كنت كثيرا أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم. فقلت: من أبو الهيثم؟ فقال: أبو الهيثم الحدّاد، لمّا مددت يدي إلى العقاب، وأخرجت للسّياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيّار اللّصّ الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أنّي ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتّفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدّنيا، فاصبر أنت في طاعة الرّحمن لأجل الدّين.

قلت: أبو الهيثم هذا يقال له: خالد الحدّاد، وكان يضرب المثل بصبره، قال له المتوكّل: ما بلغ من جلدك؟ قال: ملأ لي جرابي عقارب، ثمّ أدخل يدي فيه، وإنّه ليؤلمني ما يؤلمك، وأجد لآخر سوط من الألم ما أجد لأوّل سوط، ولو وضعت في فمي خرقة، وأنا أضرب لاحترقت من حرارة ما يخرج من جوفي، ولكنّني وطّنت نفسي على الصّبر.

<<  <   >  >>