للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكلام، ثمّ يترقّى إلى الخالق فيقول: ما فائدة إرسال الرّسل وسيجري ما قدّرته؟ وما يفضي إلى ردّ الكتب وتجهيل الرّسل محال باطل، ولهذا كان ردّ الرّسول على أصحابه حين قالوا: ألا نتّكل؟ فقال: «اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له» (١).

واعلم أنّ للآدميّ كسبا هو اختيار، فعليه يقع الثّواب والعقاب، فإذا خالف تبيّن لنا أنّ الله ﷿ قضى في السّابق بأن يخالفه، وإنّما يعاقبه على خلافه، لا على قضائه، ولهذا يقتل القاتل، ولا يعتذر له بالقدر، وإنّما ردّهم الرّسول عن ملاحظة القدر إلى العمل؛ لأنّ الأمر والنّهي حال ظاهر، والمقدّر من ذلك أمر باطن، وليس لنا أن نترك ما عرفناه من تكليف، إلى ما لا نعلمه من المقضيّ.

وقوله: «فكلّ ميسّر لما خلق له» إشارة إلى أسباب القدر؛ فإنّه من قضي له بالعلم، يسّر له طلبه وحبّه وفهمه، ومن حكم له بالجهل، نزع حبّ العلم من قلبه، وكذلك من قضي له بولد، يسّر له النّكاح، ومن لم يقض له بولد لم ييسّر له.

الشبهة الثانية: أنّهم قالوا: إنّ الله ﷿ مستغن عن أعمالنا غير متأثّر بها، معصية كانت أو طاعة، فلا ينبغي أن نتعب أنفسنا في غير فائدة.

وجواب هذه الشّبهة أن نجيب أوّلا بالجواب الأوّل، ونقول: هذا ردّ على الشّرع فيما أمر به، فكأنّا قلنا للرسول وللمرسل: لا فائدة فيما أمرتنا به. ثمّ نتكلّم عن الشّبهة فنقول:

من يتوهّم أنّ الله - جل وعلا - ينتفع بطاعة أو يتضرّر بمعصية، أو ينال بذلك غرضا، فما عرف الله لأنّه مقدّس عن الأغراض، ومن انتفاع أو ضرر، وإنّما نفع الأعمال تعود على أنفسنا، كما قال ﷿: ﴿وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ [العنكبوت: ٦]، ﴿وَمَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ١٨]، وإنّما يأمر الطّبيب المريض بالحمية لمصلحة المريض، لا


(١) أخرجه البخاري (٤٩٤٥)، ومسلم (٢٦٤٧) من حديث علي .

<<  <   >  >>