للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهل طالب الشّرع أحدا بمحو أثر النّفس، وقد قال : «من أتى شيئا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله» (١).

كلّ هذا للإبقاء على جاه النّفس، ولو أمر بهلول الصّبيان أن يصفعوه، لكان قبيحا، فنعوذ بالله من هذه العقول النّاقصة، الّتي تطالب المبتدئ بما لا يرضاه الشّرع فينفر.

وقد حكى أبو حامد الغزالي في «كتاب الإحياء» عن يحيى بن معاذ، أنّه قال: قلت لأبي يزيد: هل سألت الله تعالى المعرفة؟! فقال: عزّت عليه أن يعرفها سواه.

فقلت: هذا إقرار بالجهل، فإن كان يشير إلى معرفة الله تعالى في الجملة وأنّه موجود وموصوف بصفات، وهذا لا يسع أحدا من المسلمين جهله، وإن تخايل له أنّ معرفته هي اطّلاع على حقيقة ذاته وكنهها، فهذا جهل به.

وحكى أبو حامد: أنّ أبا تراب النخشبيّ قال لمريد له: لو رأيت أبا يزيد مرّة واحدة، كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرّة.

قلت: وهذا فرق الجنون بدرجات.

وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريني أنّه قال: نزلت في محلّة، فعرفت فيها بالصّلاح، فنشب في قلبي، فدخلت الحمّام وعيّنت على ثياب فاخرة، فسرقتها ولبستها، ثمّ لبست مرقّعتي، وخرجت، فجعلت أمشي قليلا قليلا، فلحقوني، فنزعوا مرقّعتي، وأخذوا الثّياب، وصفعوني، فصرت بعد ذلك أعرف بلصّ الحمّام، فسكنت نفسي.

قال أبو حامد: فهكذا يروّضون أنفسهم، حتّى خلّصهم الله من النّظر إلى الخلق، ثمّ من النّظر إلى النّفس، وأرباب الأحوال ربّما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه، مهما رأوا صلاح قلوبهم، ثمّ يتداركون ما فرط منهم من صورة التّقصير، كما فعل هذا في الحمّام.


(١) أخرجه مالك (١٥٦٢) من حديث زيد بن أسلم، وصححه الألباني في «الصحيحة» (٦٦٣).

<<  <   >  >>