من أصحابنا، فقال: ما كان لكم شغل في الله ﷿ يشغلكم عن المجيء إليّ. فقلت له: إذا كان مجيئنا إليك من شغلنا به فلم ننقطع عنه، فسألته عن مسألة في التّوكّل، فأخرج درهما كان عنده، ثمّ أجابني، فأعطى التّوكّل حقّه، ثمّ قال: استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء.
قال المصنف: لو فهم هؤلاء معنى التّوكّل، وأنّه ثقة القلب بالله ﷿، لا إخراج صور المال، ما قال هؤلاء هذا الكلام، ولكن قلّ فهمهم، وقد كان سادات الصّحابة والتّابعين يتّجرون ويجمعون الأموال، وما قال مثل هذا أحد منهم.
وقد روّينا عن أبي بكر الصّدّيق ﵁ أنّه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة: فمن أين أطعم عيالي؟
وهذا القول منكر عند الصّوفيّة، يخرجون قائله من التّوكّل، وكذلك ينكرون على من قال: هذا الطّعام يضرّني، وقد رووا في ذلك حكاية عن أبي طالب الرّازي قال: حضرت مع أصحابنا في موضع، فقدموا اللّبن، وقال لي: كل، فقلت: لا آكله، فإنّه يضرّني، فلمّا كان بعد أربعين سنة، صلّيت يوما خلف المقام، ودعوت الله ﷿، وقلت: اللهمّ إنّك تعلم أنّي ما أشركت بك طرفة عين، فسمعت هاتفا يهتف بي، ويقول: ولا يوم اللّبن.
قال المصنّف: وهذه الحكاية الله أعلم بصحّتها - وأعلم أنّ من يقول: هذا يضرّني، لا يريد أنّ ذلك يفعل الضّرر بنفسه، وإنّما يريد أنّه سبب الضّرر، كما قال الخليل صلوات الله وسلامه عليه: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، وقد صحّ عن رسول الله ﷺ أنّه قال:«ما نفعني مال كمال أبي بكر»(١)، وقوله:«ما نفعني»، مقابل لقول القائل: ما ضرّني.
(١) أخرجه ابن ماجه (٩٤) من حديث أبي هريرة ﵁، وصحّحه الألبانيّ في «صحيح الجامع» (٥٨٠٨).