ثم وقفَ الشَّيخُ أبو سَعِيد فرأى مَن كانَ بقي بغَرناطة من الفُرسان واصلًا على إثره، وكُلّ مَن معهُ واقفًا عليه ومُسْتَطْلعًا لنظرِه، فذكرَ الله تعالى وصَلَّى على نبيّه وحرّض المُسلمين على جِهاد عَدُوِّه، واستعاذ وقرأ:{يَسْتَبْشِرُونَ}[آل عمران: ١٧١]، و {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}[الشعراء: ٢٢٧]. ثم رجعَ للصَّلاة والدُّعاء والرَّغْبة من الله في النَّصْر على الأعداء. وعند ذلكَ ركب جَيْش الروم بكُلِّيّته، ومالَ على المُسلمين بجُمْلتِه، ولم يَعْلموا برجال المُسلمين الغادية، فَتَركُوا الجهة العُليا من المنزلة خالية، وجاءوا إلى جَيْش المُسلمين وهم على فَنائه مُعَوِّلين، فما راعَ المُسلمين بحمد الله حالهم من الدُّنوّ والقُرب و {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}[الأنفال: ١٢]. واستمرَّ الشَّيخُ أبو سعيد على تَتْمِيم رُكُوعه، ووقفَ كلُّ مَن معه مُنْتَظِرًا لركوبه وطُلُوعه، ولما رأى أعداءُ الله المُسلمين قد صَبَرُوا وثَبَتُوا توقفوا وبُهِتُوا، وخرج من الفريقين فُرسان يُحَرِّكون القتالَ، ووجّه الشَّيخُ فأمرَهُم أن يَسْبوا طرف المَحلّة، فأفادت الحِيلة، وتَمَكّنت العِلّة، واستُشْهِدَ في خلال ذلك أميرُ رُنْدة، واختارَ الله تعالى له ما عندَه، وعَلِمَ نِيّته في الجهاد فأتمّ قَصْدَه، فاجتهدَ قرابتُهُ في طَلَب الثأر، واستعانوا بالواحد القَهّار، وحَصْحَص الحَقُّ، واتَسعَ على أعداءِ الله الخَرْقُ، وعُلِمَ أنّ ما أرادَهُ الخالق فلا يردُّه الخَلْقُ، وظهرَ في المَحلَّة النّار، وتَوَاصلت لهم برجال المُسلمين الأخبار، فمالوا بحملتِهم إلى المَحَلّة مُسْرعين، فغُلِبُوا هنالك وانقَلَبُوا صاغِرين، وجاءَهُم من كل الجهات المَوْت، وفَزعوا فلا فَوْت، وتَحَكَّمت سيوفُ الله من رقابِهم، وحَلَّ البلاءُ بصغيرِهم وكَبيرهم، فما زالَ المُسلمون يَقْتلون في الموضع من السّاعة السّابعة إلى الغُروب، ويَحْمَدُون الله على نَيل المَرْغوب.