فَتَقْيِيدُهُ بِالْمَاءِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ، فَجَازَتْ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ، كَالْمَاءِ، فَأَمَّا مَا لَا يُزِيلُ كَالْمَرَقِ وَاللَّبَنِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزَالُ بِهِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ إحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،
وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُطْلَقُ حَدِيثِهِمْ مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِنَا، وَالْمَاءُ يَخْتَصُّ بِتَحْصِيلِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى.
[فَصْلٌ غَيْرُ النَّبِيذِ مِنْ الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ]
وَمِنْهَا اخْتِصَاصُ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ، لِتَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَحْصُلُ بِمَائِعٍ سِوَاهُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ عِكْرِمَةُ النَّبِيذُ وَضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: النَّبِيذُ حُلْوًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّيَمُّمِ، وَجَمْعُهُمَا أَحَبُّ إلَيَّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ عِكْرِمَةَ وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ الْوَضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، إذَا طُبِخَ وَاشْتَدَّ، عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ؛ لِمَا رَوَى «ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَقَالَ: أَمَعَكَ وَضُوءٌ؟ فَقَالَ: لَا، مَعِي إدَاوَةٌ فِيهَا نَبِيذٌ. فَقَالَ: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣] وَهَذَا نَصٌّ فِي الِانْتِقَالِ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ فِي الْحَضَرِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَأَشْبَهَ الْخَلَّ وَالْمَرَقَ، وَحَدِيثُهُمْ لَا يَثْبُتُ، وَرَاوِيهِ أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَا يُعْرَفُ لَهُ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْرَفُ بِصُحْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ مَعَهُ مِنَّا أَحَدٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مَعَهُ.
(٢) فَصْلٌ: فَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيذِ مِنْ الْمَائِعَاتِ، غَيْرِ الْمَاءِ، كَالْخَلِّ، وَالدُّهْنِ، وَالْمَرَقِ، وَاللَّبَنِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَا نَعْلَمُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَا وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الطَّهُورِيَّةَ لِلْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: ١١] ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute