وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ، كُلٌّ يُعِدُّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ رِبَاطًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْلٌ. وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ، وَأَجْرُهُ كَبِيرٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ يَعْدِلُ الْجِهَادَ عِنْدِي وَالرِّبَاطَ شَيْءٌ، وَالرِّبَاطُ دَفْعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَعَنْ حَرِيمِهِمْ، وَقُوَّةٌ لِأَهْلِ الثَّغْرِ وَلِأَهْلِ الْغَزْوِ، فَالرِّبَاطُ أَصِلُ الْجِهَادِ وَفَرْعُهُ، وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْهُ لِلْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْلِ الرِّبَاطِ أَخْبَارٌ؛ مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، فَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: إنِّي كُنْت كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَاهِيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ، لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ مِنْكُمْ لِنَفْسِهِ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَغَيْرُهُمَا.
إذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَإِنَّ الرِّبَاطَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، فَكُلُّ مُدَّةٍ أَقَامَهَا بِنِيَّةِ الرِّبَاطِ، فَهُوَ رِبَاطٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رِبَاطُ يَوْمٍ وَرِبَاطُ لَيْلَةٍ.» قَالَ أَحْمَدُ: يَوْمٌ رِبَاطٌ، وَلَيْلَةٌ رِبَاطٌ، وَسَاعَةٌ رِبَاطٌ. وَقَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَمَنْ رَابَطَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُتِبَ بِهِ أَجْرُ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوَافِقَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ، مَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الرِّبَاطَ. وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ، فِي " كِتَابِ الثَّوَابِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا» . وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ الرِّبَاطِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ رَابَطْت؟ قَالَ: ثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَ: عَزَمْت عَلَيْك إلَّا رَجَعْت حَتَّى تُتِمَّهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَإِنْ رَابَطَ أَكْثَرَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَمَنْ زَادَ، زَادَهُ اللَّهُ.
[فَصْلٌ وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا]
(٧٤٢٧) : وَأَفْضَلُ الرِّبَاطِ الْمُقَامُ بِأَشَدِّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ، وَمُقَامُهُ بِهِ أَنْفَعُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَفْضَلُ الرِّبَاطِ أَشَدُّهُمْ كَلَبًا. وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَأَيْنَ أَحَبُّ إلَيْك أَنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ؟ قَالَ: كُلُّ مَدِينَةٍ مَعْقِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute