وَلَا فَرَّطَ.
وَإِنْ قَضَاهُ بِبَيِّنَةٍ مَرْدُودَةٍ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ، كَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، لَمْ يَرْجِعْ الضَّامِنُ لِتَفْرِيطِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ كَعَدَمِهَا، وَإِنْ رُدَّتْ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ، كَالْفِسْقِ الْبَاطِنِ، أَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخْتَلَفًا فِيهَا، مِثْلُ أَنْ أَشْهَدَ عَبْدَيْنِ، أَوْ شَاهِدًا وَاحِدًا، فَرُدَّتْ لِذَلِكَ، أَوْ كَانَ مَيْتًا أَوْ غَائِبًا، احْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِبَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لَيْسَ إلَيْهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ مَنْ لَا يَثْبُتُ الْحَقُّ بِشَهَادَتِهِ.
وَإِنْ قَضَى بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بِحَضْرَةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يَرْجِعُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا كَانَ الِاحْتِيَاطُ إلَيْهِ، فَإِذَا تَرَكَ التَّحَفُّظَ وَهُوَ حَاضِرٌ، فَهُوَ الْمُفَرِّطُ دُونَ الضَّامِنِ. وَالثَّانِي، لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى قَضَاءً لَا يُبْرِئُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَضَى فِي غَيْبَتِهِ. فَأَمَّا إنْ رَجَعَ الْمَضْمُونُ لَهُ عَلَى الضَّامِنِ، فَاسْتَوْفِي مِنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، رَجَعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَ بِهِ ذِمَّتَهُ ظَاهِرًا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ بِمَا قَضَاهُ أَوَّلًا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ بِهِ فِي الْبَاطِنِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا أَبْرَأَهُ ظَاهِرًا، وَالثَّانِيَ مَا أَبْرَأَهُ بَاطِنًا.
وَلَنَا، أَنَّ الضَّامِنَ أَدَّى عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إذَا أَبْرَأَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَرَجَعَ بِهِ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْمُبْرِئَ فِي الْبَاطِنِ مَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ، فَيَجِبُ أَنْ يَجِبَ بِالْبَاقِي الْمُبْرِئِ فِي الظَّاهِرِ.
وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمَضْمُونُ لَهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَنْكَرَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِلْمَضْمُونِ لَهُ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِالْقَبْضِ مِنْ الضَّامِنِ، فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ صَارَ لِلضَّامِنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ، لِكَوْنِهِ إقْرَارًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ مُدَّعٍ لِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَقَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا يُقْبَلُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ، كَشَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ بِالرَّضَاعِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ.
[فَصْلٌ لَا يَدْخُلُ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ خِيَارٌ]
(٣٥٩١) فَصْلٌ: وَلَا يَدْخُلُ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ جُعِلَ لِيُعْرَفَ مَا فِيهِ الْحَظُّ، وَالضَّمِينُ وَالْكَفِيلُ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمَا، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَدْخُلْهُ خِيَارٌ، كَالنَّذْرِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ خِلَافَهُمْ. فَإِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِمَا، فَقَالَ الْقَاضِي: عِنْدِي أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبْطُلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا، فَفَسَدَتْ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى الضَّمَانِ وَالْكَفَالَة لُزُومُ مَا ضَمِنَهُ أَوْ كَفَلَ بِهِ، وَالْخِيَارُ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الشَّرْطُ وَتَصِحَّ الْكَفَالَةُ، كَمَا قُلْنَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute