ابْتِدَائِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا تَغْرِسْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ. فَإِنْ امْتَنَعَ الْمُعِيرُ مِنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، وَامْتَنَعَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ الْقَلْعِ وَدَفْعِ الْأَجْرِ، لَمْ يُقْلَعْ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، وَالْإِذْنُ فِيمَا يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ وَتَضُرُّ إزَالَتُهُ رِضًى بِالْإِبْقَاءِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» .
يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْعِرْقَ الَّذِي لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُ حَقٌّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ، بِيعَتْ الْأَرْضُ بِغِرَاسِهَا، وَدُفِعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرُ حَقِّهِ، فَيُقَالُ: كَمْ قِيمَةُ الْأَرْضِ غَيْرَ مَغْرُوسَةٍ وَلَا مَبْنِيَّةٍ؟ فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةٌ. قُلْنَا: وَكَمْ تُسَاوِي مَغْرُوسَةً وَمَبْنِيَّةً؟ فَإِنْ قَالُوا: خَمْسَةَ عَشَرَ. قُلْنَا: فَلِلْمُعِيرِ ثُلُثَا الثَّمَنِ، وَلِلْمُسْتَعِيرِ ثُلُثُهُ. وَإِنْ امْتَنَعَا مِنْ الْبَيْعِ، بَقِيَا عَلَى حَالِهِمَا، وَلِلْمُعِيرِ دُخُولُ أَرْضِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لَا يَضُرُّ الْغِرَاسَ وَالْبِنَاءَ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِمَا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الدُّخُولُ إلَّا لِحَاجَةٍ، مِثْلِ السَّقْيِ وَإِصْلَاحِ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْغِرَاسِ إذْنٌ فِيمَا يَعُودُ بِصَلَاحِهِ، وَأَخْذِ ثِمَارِهِ، وَسَقْيِهِ. وَلَيْسَ لَهُ دُخُولُهَا لِلتَّفَرُّجِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ لَهُ.
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْعُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْمِلْكِ مُنْفَرِدًا، فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِثْلُ مَا كَانَ لِبَائِعِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ بَيْعُ الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْمُعِيرِ أَخْذَهُ مَتَى شَاءَ بِقِيمَتِهِ. قُلْنَا: عَدَمُ اسْتِقْرَارِهِ لَا يَمْنَعُ بَيْعَهُ، بِدَلِيلِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، مَتَى كَانَ الْمُعِيرُ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الْقَلْعَ عِنْدَ رُجُوعِهِ، وَرَدَّ الْعَارِيَّةِ غَيْرِ مَشْغُولَةٍ، لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ غَيْرُ مُطْلَقَةٍ، فَلَمْ تَتَنَاوَلْ مَا عَدَا الْمُقَيَّدِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ دَخَلَ فِي الْعَارِيَّةِ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ضَمَانُ نَقْصِهِ. وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
وَأَمَّا تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ الْحَاصِلَةِ بِالْقَلْعِ فَإِذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ، لَزِمَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِضَرَرِ الْقَلْعِ مِنْ الْحَفْرِ وَنَحْوِهِ، حَيْثُ اشْتَرَطَ الْقَلْعَ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَجْرًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، إلَّا فِيمَا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزَّرْعِ، فَزَرَعَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْمُعِيرُ فِيهَا قَبْلَ كَمَالِ الزَّرْعِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ، مِنْ حِينَ رَجَعَ الْمُعِيرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْقَلْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، فَفِي دَفْعِ الْأَجْرِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، فَيُخَرَّجُ فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ مِثْلُ هَذَا، لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ بَاقٍ فِيهِ، لِكَوْنِهَا صَارَتْ لَازِمَةً لِلضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِفَسْخِهَا، وَالْإِعَارَةُ تَقْتَضِي الِانْتِفَاعَ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
[فَصْلٌ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبهَا]
(٣٩٢٧) فَصْلٌ: وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، جَازَ؛ لِأَنَّ إجَارَتَهَا لِذَلِكَ جَائِزَةٌ، وَالْإِعَارَةُ أَوْسَعُ، لِجَوَازِهَا فِيمَا لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، مِثْلُ إعَارَةِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ. فَإِنْ اسْتَعَارَهَا إلَى مَوْضِعٍ، فَجَاوَزَهُ، فَقَدْ تَعَدَّى، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِلزِّيَادَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute