فَلَمْ يُوجِبْ بِقَذْفِ الْأَزْوَاجِ إلَّا اللِّعَانَ. وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] وَهَذَا عَامٌّ فِي الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الزَّوْجَ بِأَنْ أَقَامَ لِعَانَهُ مَقَامَ الشَّهَادَةِ، فِي نَفْيِ الْحَدِّ وَالْفِسْقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ عَنْهُ.
وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك» . وَقَوْلُهُ لَمَّا لَاعَنَ: " عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ". وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، فَلَزِمَهُ إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ الْمَشْرُوعَةِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. فَأَمَّا إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا كَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمَجْنُونَةِ، وَالطِّفْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِنَّ الْمَعَرَّةَ بِالْقَذْفِ، وَلَا يُحَدُّ لَهُنَّ حَدًّا كَامِلًا لِنُقْصَانِهِنَّ بِذَلِكَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِسْقٌ، وَلَا رَدُّ شَهَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ هَذَا التَّعْزِيرِ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إمَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ، أَوْ لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ إسْقَاطَ الْحَدِّ الْكَامِلِ بِاللِّعَانِ، فَإِسْقَاطُ مَا دُونَهُ أَوْلَى. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِدَفْعِ الْحَدِّ الَّذِي يَعْظُمُ ضَرَرُهُ، مَشْرُوعِيَّتُهُ لِدَفْعِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَ طِفْلَةً لَا يُتَصَوَّرُ وَطْؤُهَا، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرَ السَّبِّ وَالْأَذَى، وَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ. كَذَا هَاهُنَا. وَأَمَّا إنْ كَانَ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي الْأَمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى.
[مَسْأَلَة لَا يُعْرَضُ لِلزَّوْجِ فِي الْحَدّ حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ بِاللِّعَانِ]
(٦٢٥١) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَلَا يُعْرَضُ لَهُ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ) . يَعْنِي لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَا طَلَبِ اللِّعَانِ مِنْهُ، حَتَّى تُطَالِبَهُ زَوْجَتُهُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، فَلَا يُقَامُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا، كَسَائِرِ حُقُوقِهَا. وَلَيْسَ لِوَلِيِّهَا الْمُطَالَبَةُ عَنْهَا إنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، وَلَا لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَسَيِّدِ الْأَمَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّعْزِيرِ مِنْ أَجْلِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لِلتَّشَفِّي، فَلَا يَقُومُ الْغَيْرُ فِيهِ مَقَامَ الْمُسْتَحِقِّ، كَالْقِصَاصِ. فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ اللِّعَانَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةٍ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ، مِثْلُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِزِنَاهَا، أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ قَذْفِهَا، أَوْ حُدَّ لَهَا ثُمَّ أَرَادَ لِعَانَهَا، وَلَا نَسَبَ هُنَاكَ يُنْفَى، فَإِنَّهُ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا: لَهُ الْمُلَاعَنَةُ؛ لِإِزَالَةِ الْفِرَاشِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْفِرَاشِ تُمَكِّنُهُ بِالطَّلَاقِ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ لَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute