وَلَنَا، أَنَّ فِعْلَهُ سَبَبُ تَلَفِهِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ عَقِيبَ فِعْلِهِ، أَوْ مَالَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَكَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ أَوْ الْبَرْدُ، فَسَرَتْ الْجِنَايَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.
وَأَمَّا إنْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ، فَإِنَّ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَهُمَا مُبَاشَرَةً يُمْكِنُ الْإِحَالَةُ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَلَوْ كَانَ جَامِدًا، فَأَدْنَى مِنْهُ آخَرُ نَارًا، فَأَذَابَهُ فَسَالَ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَذَابَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَخَصُّ، لِكَوْنِ التَّلَفِ يَعْقُبُهُ، فَأَشْبَهَ الْمُنَفِّرَ مَعَ فَاتِحِ الْقَفَصِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَسَارِقَيْنِ نَقَّبَ أَحَدُهُمَا، وَأَخْرَجَ الْآخَرُ الْمَتَاعَ. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُدْنِيَ النَّارِ أَلْجَأَهُ إلَى الْخُرُوجِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَاقِفًا فَدَفَعَهُ.
وَالْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى مُخْرِجِ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ، وَالْقَطْعُ حَدٌّ لَا يَجِبُ إلَّا بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ جَمِيعًا، ثُمَّ إنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ. وَلَوْ أَذَابَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ فَتَحَ الثَّانِي رَأْسَهُ، فَانْدَفَقَ، فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ التَّلَفَ تَعَقَّبَهُ. وَإِنْ فَتَحَ زِقًّا مُسْتَعْلِيَ الرَّأْسِ، فَخَرَجَ بَعْضُ مَا فِيهِ، وَاسْتَمَرَّ خُرُوجُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، فَجَاءَ آخَرُ فَنَكَّسَهُ، فَانْدَفَقَ، فَضَمَانُ مَا خَرَجَ بَعْدَ التَّنْكِيسِ عَلَى الْمُنَكِّسِ، وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْفَاتِحِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَخَصُّ، كَالْجَارِحِ وَالذَّابِحِ.
[فَصْلٌ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَذَهَبَتْ أَوْ غَرِقَتْ]
(٤٠٠٧) فَصْلٌ: وَإِنْ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَذَهَبَتْ أَوْ غَرِقَتْ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، سَوَاءٌ تَعَقَّبَ فِعْلَهُ أَوْ تَرَاخَى. وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي الطَّائِرِ فِي الْقَفَصِ.
[فَصْلٌ أُوقِد فِي مِلْكِهِ نَارًا أَوْ فِي مَوَاتٍ]
(٤٠٠٨) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْقَدَ فِي مِلْكِهِ نَارًا، أَوْ فِي مَوَاتٍ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا، أَوْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَلَ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَغَرَّقَهَا، لَمْ يَضْمَنْ إذَا كَانَ فَعَلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ، كَسِرَايَةِ الْقَوَدِ، وَفَارَقَ مَنْ حَلَّ زِقًّا فَانْدَفَقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِحَلِّهِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ خُرُوجُ الْمَائِعِ مِنْ الزِّقِّ الْمَفْتُوحِ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ سِرَايَةَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعْتَادِ إلَى تَلَفِ مَالِ غَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، بِأَنْ أَجَّجَ نَارًا تَسْرِي فِي الْعَادَةِ لِكَثْرَتِهَا، أَوْ فِي رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَحْمِلُهَا، أَوْ فَتَحَ مَاءً كَثِيرًا يَتَعَدَّى، أَوْ فَتَحَ الْمَاءَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ أَوْقَدَ فِي دَارِ غَيْرِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ. وَإِنْ سَرَى إلَى غَيْرِ الدَّارِ الَّتِي أَوْقَدَ فِيهَا، وَالْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَ الْمَاءَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ عُدْوَانٍ، أَشْبَهَتْ سِرَايَةُ الْجُرْحِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ. وَإِنْ أَوْقَدَ نَارًا فَأَيْبَسَتْ أَغْصَانَ شَجَرَةِ غَيْرِهِ، ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نَارٍ كَثِيرَةٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَغْصَانُ فِي هَوَائِهِ، فَلَا يَضْمَنُهَا؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي دَارِهِ؛ لِحُرْمَتِهَا. وَهَذَا الْفَصْلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute