ذَكَرْنَا عَنْهُمْ كَرَاهَتَهَا، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ اسْتِئْجَارُ الْحَجَّامِ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ]
(٤٢٩٧) فَصْلٌ: فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الْحَجَّامِ لِغَيْرِ الْحِجَامَةِ، كَالْفَصْدِ، وَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْصِيرِهِ، وَالْخِتَانِ، وَقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . يَعْنِي بِالْحِجَامَةِ، كَمَا نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، أَيْ فِي الْبِغَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَبَ بِصِنَاعَةٍ أُخْرَى، لَمْ يَكُنْ خَبِيثًا بِغَيْرِ خِلَافٍ
وَهَذَا النَّهْيُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، فَيَخْتَصُّ بِالْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا، وَلَا تَحْرِيمَ فِيهَا، فَجَازَتْ الْإِجَارَةُ فِيهَا، وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ.
[فَصْلٌ اسْتَأْجَرَ كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ]
(٤٢٩٨) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ جَائِزٌ، وَيُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ، وَيَحْتَاجُ أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَيُقَدَّرُ بِهِ، وَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ قَدْرِ مَا يُكَحِّلهُ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ. فَأَمَّا إنْ قَدَّرَهَا بِالْبُرْءِ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا بَأْسَ بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حِينَ رَقَى الرَّجُلَ، شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ
وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا يَجُوزُ، لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لَا إجَارَةً، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْجَعَالَةُ، فَتَجُوزُ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، كَرَدِّ اللُّقَطَةِ وَالْآبِقِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي الرُّقْيَةِ إنَّمَا كَانَ جَعَالَةً، فَيَجُوزُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْكُحْلَ إنْ كَانَ مِنْ الْعَلِيلِ جَازَ؛ لِأَنَّ آلَاتِ الْعَمَلِ تَكُونُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ، كَاللَّبِنِ فِي الْبِنَاءِ وَالطِّينِ وَالْآجُرِّ وَنَحْوهَا. وَإِنْ شَارَطَهُ عَلَى الْكُحْلِ، جَازَ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، كَلَبِنِ الْحَائِطِ
وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، وَيَشُقُّ عَلَى الْعَلِيلِ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَجَازَ ذَلِكَ، كَالصِّبْغِ مِنْ الصَّبَّاغِ، وَاللَّبَنِ فِي الرَّضَاعِ، وَالْحِبْرِ وَالْأَقْلَامِ مِنْ الْوَرَّاقِ. وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ. وَفَارَقَ لَبِنَ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَحْصِيلُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ، وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا وَالْآجُرُّ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا تَتِمُّ بِهِ الصَّنْعَةُ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مُبَاحًا مَعْرُوفًا، جَازَ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَصْبُغ ثَوْبًا، وَالصِّبْغُ مِنْ عِنْدِهِ
وَلَنَا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ بَيْعَ الْعَيْنِ، صَارَ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَيُفَارِقُ الصِّبْغَ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّورَةِ الَّتِي جَازَ فِيهَا ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الصِّبْغِ يَشُقُّ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute