وَالثَّانِي، يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِمُدَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَيَحْتَسِبُ بِمُدَّةِ الْحَبْسِ مِنْ الْأَجَلِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي حَبَسَهُ فِيهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَلَى سَيِّدِهِ تَمْكِينَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مُدَّةَ كِتَابَتِهِ، فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً، وَجَبَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهُ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لَهُ، وَلِأَنَّ حَبْسَهُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِ الْكِتَابَةِ، وَتَفْوِيتِ مَقْصُودِهَا، وَرَدِّهِ إلَى الرِّقِّ، وَلِأَنَّ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ فِي مَحِلِّهَا بِسَبَبٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ مَنَعَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ، لَمْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَلَوْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ فَسْخَ الْعَقْد؛ كَذَا، هَاهُنَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ، أَنَّهُ يَلْزَمُ سَيِّدَهُ أَرْفَقُ الْأَمْرَيْنِ بِهِ؛ مِنْ تَخْلِيَتِهِ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، أَوْ أَجْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ سَبَبُهُمَا، فَكَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْفَعُهُمَا.
[فَصْلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُكَاتَبَ عَبْدُهُ]
(٨٨٤٦) فَصْلٌ: وَإِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُكَاتَبَ عَبْدُهُ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ، فَإِذَا أَوْصَى بِهِ، صَحَّ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لَزِمَهُمْ كِتَابَتُهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَالُ الْكِتَابَةِ مِنْ مَالِهِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ وَفَائِدَتُهُ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ عَيَّنَ مَالَ الْكِتَابَةِ، كَاتَبُوهُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ مِثْلَهَا أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، كَاتَبُوهُ عَلَى مَا جَرَى الْعُرْفُ بِكِتَابَةِ مِثْلِهِ بِهِ. وَالْعُرْفُ أَنْ يُكَاتَبَ الْعَبْدُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِكَوْنِ دَيْنِهَا مُؤَجَّلًا. وَيَجِبُ رَدُّ رَيْعِهِ إلَيْهِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ رِضَا الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَلْزَمُهُ، وَلَا يَجُوزُ إجْبَارُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ، وَلَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَا رِضَاهُ. فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ، بَطَلَتْ. فَإِنْ عَادَ فَطَلَبِهَا، لَمْ تَلْزَمْهُ إجَابَتُهُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ بَطَلَتْ بِالرَّدِّ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَدَّهَا، وَجَبَتْ إجَابَتُهُ إلَيْهَا. وَإِذَا أَدَّى عَتَقَ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُوصِي بِكِتَابَتِهِ، كَمَا لَوْ وَصَّى بِعِتْقِهِ، وَإِنْ عَجَزَ، فَلِلْوَارِثِ رَدُّهُ فِي الرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يُكَاتَبُ مِنْهُ مَا خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَّى بِوَصَايَا غَيْرِ الْكِتَابَةِ، لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، تَحَاصُّوا فِي الثُّلُثِ، وَأُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَيَتَخَرَّجُ أَنْ تُقَدَّمَ الْكِتَابَةُ؛ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُقَدِّمُ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَقْصُودُهَا الْعِتْقُ، وَتُفْضِي إلَيْهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُقَدَّمَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ تَغْلِيبٌ وَسِرَايَةٌ، لَيْسَ هُوَ لِلْكِتَابَةِ، وَإِفْضَاؤُهَا إلَى الْعِتْقِ لَا يُوجِبُ تَقْدِيمَهَا، كَمَا لَوْ وَصَّى لَرَجُلٍ بِابْنِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ، مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ بِوَصِيَّتِهِ الْعِتْقُ، وَيُفْضِي إلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute