وَمِنْهَا، أَنَّ الْمُضَافَ لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا؛ مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا، مَا اُعْتُصِرَ مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْقَرَنْفُلِ، وَمَا يَنْزِلُ مِنْ عُرُوقِ الشَّجَرِ إذَا قُطِعَتْ رَطْبَةً.
الثَّانِي، مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ اسْمَهُ، وَغَلَبَ عَلَى أَجْزَائِهِ، حَتَّى صَارَ صِبْغًا، أَوْ حِبْرًا، أَوْ خَلًّا، أَوْ مَرَقًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ، مَا طُبِخَ فِيهِ طَاهِرٌ فَتَغَيَّرَ بِهِ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ.
فَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهَا، وَلَا الْغُسْلُ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمِّ فِي الْمِيَاهِ الْمُعْتَصَرَةِ، أَنَّهَا طَهُورٌ يَرْتَفِعُ بِهَا الْحَدَثُ، وَيُزَالُ بِهَا النَّجَسُ.
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ فِي مَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ، وَسَائِرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ جَائِزٍ بِمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الشَّجَرِ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ، وَلَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إنَّمَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ بِإِطْلَاقِهِ
الضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَغَيَّرَ إحْدَى صِفَاتِهِ، طَعْمَهُ، أَوْ لَوْنَهُ، أَوْ رِيحَهُ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْحِمَّصِ، وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ إمَامِنَا، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي ذَلِكَ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهِيَ أَصَحُّ، وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ. وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ، وَالْمَيْمُونِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣] وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَاءٍ؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْي تَعُمُّ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «التُّرَابُ كَافِيكَ مَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ» .
وَهَذَا وَاجِدٌ لِلْمَاءِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ، وَغَالِبُ أَسْقِيَتِهِمْ الْأُدْمُ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا تُغَيِّرُ الْمَاءَ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَيَمُّمٌ مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمِيَاهِ؛ وَلِأَنَّهُ طَهُورٌ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ، وَلَا رِقَّتَهُ، وَلَا جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ.
وَوَجْهُ الْأُولَى: أَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ، كَمَاءِ الْبَاقِلَّا الْمَغْلِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ زَالَ عَنْ إطْلَاقِهِ، فَأَشْبَهَ الْمَغْلِيَّ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَذْرُورِ فِي الْمَاءِ مِمَّا يُخْلَطُ بِالْمَاءِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْحُبُوبِ مِنْ الْبَاقِلَّا وَالْحِمَّصِ، وَالثَّمَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْوَرَقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute