فِيهَا، فَلَوْ وَقَفَ صِحَّةَ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعِلْمِ، لَكَانَ سَدًّا لِبَابِ عَفْوِ الْإِنْسَانِ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَتَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، كَالْمَنْعِ مِنْ الْعِتْقِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يَعْلَمُهُ، وَيَكْتُمُهُ الْمُسْتَحِقَّ، خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ لَمْ يَسْمَحْ بِإِبْرَائِهِ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي، وَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَبْرَأهُ مِنْ مِائَةٍ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةٌ، فَفِي صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، صِحَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مِلْكَهُ، فَأَسْقَطَتْهُ، كَمَا لَوْ عَلِمَهَا. وَالثَّانِي، لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأْهُ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ مَا لَوْ بَاعَ مَالًا كَانَ لِمَوْرُوثِهِ، يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَاقٍ لِمُوَرِّثِهِ، وَكَانَ مُوَرِّثُهُ قَدْ مَاتَ، وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَيْهِ، فَهَلْ يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي الْبَيْعِ، وَفِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ وَجْهَانِ.
[مَسْأَلَة يَقْبِضُ الْهِبَة لِلطِّفْلِ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ أَمِينُهُ بِأَمْرِهِ]
(٤٤٥٥) مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ، أَوْ وَصِيُّهُ، أَوْ الْحَاكِمُ، أَوْ أَمِينُهُ بِأَمْرِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطِّفْلَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، وَوَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَمِينٌ، فَهُوَ وَلِيُّهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَأَقْرَبُ إلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ الْأَمِينُ، وَلَهُ وَصِيٌّ، فَوَلِيُّهُ وَصِيُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ، فَجَرَى مَجْرَى وَكِيلِهِ. وَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ مَأْمُونٍ، لِفِسْقِ أَوْ جُنُونٍ، أَوْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيٍّ، فَأَمِينُهُ الْحَاكِمُ.
وَلَا يَلِي مَالَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمِينُ الْحَاكِمِ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْأَبِ وَالْوَصِيُّ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبُولٌ لِمَا لِلصَّبِيِّ فِيهِ حَظٌّ، فَكَانَ إلَى الْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَلَا يَصِحُّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. قَالَ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، فِي صَبِيٍّ وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ، أَوْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ، فَقَبَضَتْ الْأُمُّ ذَلِكَ وَأَبُوهُ حَاضِرٌ، فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ لِلْأُمِّ قَبْضًا، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِلْأَبِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَقُّ مَنْ يَحُوزُ عَلَى الصَّبِيِّ أَبُوهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَّهَبِ أَوْ نَائِبِهِ، وَالْوَالِي نَائِبٌ بِالشَّرْعِ، فَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ، أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا نِيَابَةَ لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ الْقَبْضُ وَالْقَبُولُ مِنْ غَيْرِهِمْ عِنْدَ عَدَمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ
فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ، وَيَكُونُ فَقِيرًا لَا غِنَى بِهِ عَنْ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ غَيْرِهِمْ لَهُ، انْسَدَّ بَابُ وُصُولِهَا إلَيْهِ، فَيَضِيعُ وَيَهْلَكُ، وَمُرَاعَاةُ حِفْظِهِ عَنْ الْهَلَاكِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْوِلَايَةِ. فَعَلَى هَذَا، لِلْأُمِّ الْقَبْضُ لَهُ، وَكُلِّ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُمَيَّزًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute