لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ، وَرُبَّمَا سَرَى إلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ. فَإِذَا وَضَعْت الْوَلَدَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، أَوْ تَكَفَّلَ أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ، «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي فَجَرْت، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى. فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي. فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُهُ، فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ، فَدُفِعَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، وَأَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.»
وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا، لَمْ تُؤَخَّرُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ حَمَلَتْ مِنْ الزِّنَى، «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْجُهَنِيَّةَ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ اسْتِبْرَائِهِمَا.» وَقَالَ لِأُنَيْسٍ: «اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُؤَالِهَا عَنْ اسْتِبْرَائِهَا. وَرَجَمَ عَلِيٌّ شُرَاحَةَ، وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا. وَإِنْ ادَّعَتْ الْحَمْلَ قُبِلَ قَوْلُهَا، كَمَا قَبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَ الْغَامِدِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِذَا وَضَعَتْ الْوَلَدَ، وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ، وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا، أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا، أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ تَلَفُهَا، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي الْحَالِ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْ السَّوْطِ، أُقِيمَ بِالْعُثْكُولِ. يَعْنِي شِمْرَاخَ النَّخْلِ، وَأَطْرَافَ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِضَرْبِ الْمَرِيضِ الَّذِي زَنَى، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنَّ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحْسَنْت» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد. وَلَفْظُهُ، قَالَ: «فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَفَرَغْتَ؟ فَقُلْت: أَتَيْتهَا وَدَمُهَا يَسِيلُ. فَقَالَ: دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، «أَنَّ الْمَرْأَةَ انْطَلَقَتْ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَجَاءَتْ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهَا: انْطَلِقِي، فَتَطَهَّرِي مِنْ الدَّمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَالَى عَلَيْهِ حَدَّانِ، فَاسْتَوْفَى أَحَدَهُمَا، لَمْ يُسْتَوْفَ الثَّانِي حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْكَمَالِ، مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ، فَكَانَ أَوْلَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute