أَحَدُهُمَا، أَنْ يُطَالَبَ بِنَقْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُطَالَبَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ، لَمْ يَضْمَنْ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَيْلُ حَادِثٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَ قَبْلَ مَيْلِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا آخَر، أَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلًا، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلًا، أَوْ كَانَ مَائِلًا إلَى مِلْكِهِ.
وَأَمَّا إنْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَضْمَنُ. وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَضْمَنَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَازِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَيْلُ الْحَائِطِ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ، فَلَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يُزِلْهُ ضَمِنَ، كَمَا لَوْ وَضَعَ عِدْلًا عَلَى الْحَائِطِ نَفْسِهِ، فَوَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَطُولِبَ بِرَفْعِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِنَقْضِهِ، أَوْ سَقَطَ قَبْلَ مَيْلِهِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ، لَمْ تُشْتَرَطْ الْمُطَالَبَةُ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ.
فَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا طُولِبَ؛ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا كَانَ مَيْلُهُ إلَى الطَّرِيقِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ، كَمَا لَوْ مَال الْحَائِطُ إلَى مِلْكِ جَمَاعَةٍ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْمُطَالَبَةُ، وَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ، فَاسْتَأْجَلَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ، أَوْ أَجَّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إسْقَاطَهُ. وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ، أَوْ مُرْتَهِنِهَا، أَوْ مُسْتَعِيرِهَا، أَوْ مُسْتَوْدَعِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ النَّقْضَ، وَلَيْسَ الْحَائِطُ مِلْكًا لَهُمْ. وَإِنْ طُولِبَ الْمَالِكُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ، وَنَقْضُ الْحَائِطِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، كَالْمُعِيرِ، وَالْمُودِعِ، وَالرَّاهِنِ إذَا أَمْكَنَهُ فِكَاكُ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ النَّقْضُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، لَسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، فَطُولِبَ هُوَ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ طُولِبَ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مَالُهُ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُتَصَرِّفِ، كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ. وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، فَطُولِبَ أَحَدُهُمْ بِنَقْضِهِ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ بِدُونِ إذْنِهِمْ، فَهُوَ كَالْعَاجِزِ عَنْ نَقْضِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute