(٦٨٧٣) فَصْلٌ: وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا. وَإِنْ حَفَرَهَا فِي مَوَاتٍ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ حَجَرًا، أَوْ نَصَبَ شَرَكًا، أَوْ شَبَكَةً، أَوْ مِنْجَلًا، لِيَصِيدَ بِهَا.
وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَنْ هَلَكَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ. وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ؛ لِتَعَدِّيهِ. وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، فَحَفَرَ فِي مَكَان مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ كَذَلِكَ. وَإِنْ حَفَرَ فِي مَوْضِعٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ، نَظَرْنَا؛ فَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا، سَوَاءٌ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فِيهِ، وَيُقْطِعَهُ لِمَنْ يَبِيعُ فِيهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ تَلِفَ بِحَفْرِ حُفْرَةٍ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ، لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِمْ، فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ فِي الْقُعُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ، وَتُمْكِنُ إزَالَتُهُ فِي الْحَالِ، فَأَشْبَهَ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْحَفْرِ. وَإِنْ حَفَرَ الْبِئْرَ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ أَنْ يَحْفِرَهُ لِيَنْزِلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ الطَّرِيقِ، أَوْ لِتَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ، وَنَحْوُهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِفِعْلِهِ، غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهِ، فَأَشْبَهَ بَاسِطَ الْحَصِيرِ فِي الْمَسْجِدِ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: لَا يَضْمَنُ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: إذَا أَحْدَثَ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ، فَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَرْجُو أَنْ لَا يَضْمَنَ وَالثَّانِيَةُ: يَضْمَنُ.
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ افْتَأَتَ عَلَى الْإِمَامِ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي سِوَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَيَشُقُّ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ، وَتَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ، فَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِيهِ تَفْوِيتٌ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كُلْفَةَ اسْتِئْذَانِهِ وَكُلْفَةَ الْحَفْرِ مَعًا، فَتَضِيعُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ، فَوَجَبَ إسْقَاطُ اسْتِئْذَانِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، مِنْ بَسْطِ حَصِيرٍ فِي مَسْجِدٍ، أَوْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ فِيهِ، أَوْ وَضْعِ سِرَاجٍ، أَوْ رَمِّ شَعَثٍ فِيهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَحُكْمُ الْبِنَاءِ فِي الطَّرِيقِ حُكْمُ الْحَفْرِ فِيهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى بَنَى بِنَاءً يَضُرُّ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ، أَوْ فِي وَاسِعٍ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، أَوْ بَنَى لِنَفْسِهِ، فَقَدْ تَعَدَّى، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute