وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: ٣٩] وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ لَمَا مَدَحَ بِتَرْكِهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: ١٤] . وَهَذَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ وَحَثِّهِمَا عَلَيْهِ، «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَالَ سَعْدٌ: لَقَدْ «رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ» ، وَلَوْ أَحَلَّهُ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَهَذَا حَثٌّ عَلَى النِّكَاحِ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ يُقَرِّبُهُ إلَى الْوُجُوبِ، وَالتَّخَلِّي مِنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ، وَبَالَغَ فِي الْعَدَدِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَشْتَغِلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ إلَّا بِالْأَفْضَلِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَدْنَى، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ يُفَضِّلُ التَّخَلِّيَ لَمْ يَفْعَلْهُ.
فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى النِّكَاحِ فِي فِعْلِهِ، وَخَالَفُوهُ فِي فَضْلِهِ، أَفَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتْبَعُ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ وَيَعْمَلُ بِالْأَوْلَى؟ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْصِينِ الدِّينِ، وَإِحْرَازِهِ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ، فَمَجْمُوعُهَا أَوْلَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute