مَاجَهْ، وَفِي لَفْظٍ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» .
وَتَحْدِيدُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إذْ لَوْ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ التَّحْدِيدُ مُفِيدًا.
وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . فَلَوْلَا أَنَّهُ يُفِيدُهُ مَنْعًا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ. أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَإِرَاقَةِ سُؤْرِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا تَغَيَّرَ وَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ، وَخَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ ضَعِيفٌ، وَخَبَرُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَالْخَبَرُ الْآخَرُ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَا تَغَيَّرَ نَجِسٌ، أَوْ نَخُصُّهُمَا بِخَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ أَخُصُّ مِنْهُمَا، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمَ عَلَى الْعَامِّ.
وَأَمَّا الزَّائِدُ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ، إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي طَهَارَتِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُمْ أَنَّ الْيَسِيرَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ.
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ ذَنُوبَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجُسُ بِالنَّجَاسَةِ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الْآخَرُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ يَنْجُسُ، وَإِنْ بَلَغَ أَلْفَ قُلَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَنَهَى عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ الْمَاءِ الرَّاكِدِ بَعْدَ الْبَوْلِ فِيهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يُؤْمَنُ انْتِشَارُهَا إلَيْهِ، فَيَنْجُسُ بِهَا كَالْيَسِيرِ.
وَلَنَا خَبَرُ الْقُلَّتَيْنِ، وَبِئْرِ بُضَاعَةَ، اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، مَعَ قَوْلِهِمْ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ؟ وَبِئْرُ بُضَاعَةَ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي، مَدَدْته عَلَيْهَا، ثُمَّ ذَرَعْته، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ، وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ: هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا.
وَسَأَلْت قَيِّمَهَا عَنْ عُمْقِهَا، فَقُلْت: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ. قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ. قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَاءٌ يَبْلُغُ الْقُلَّتَيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَحَدِيثُهُمْ عَامٌّ وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute