غَيْرِ إقْرَارٍ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا حُضُورٍ. وَلِأَنَّ التَّخْلِيَةَ لَيْسَتْ بِقَبْضٍ تَامٍّ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَلِفَتْ بِعَطَشٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّصَرُّفِ تَمَامُ الْقَبْضِ، بِدَلِيلِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَلَوْ تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجَّرِ، كَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، فَإِنَّهَا فِي شَجَرِهَا، كَالْمَنَافِعِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهَا، تُوجَدُ حَالًا فَحَالًا، وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي الْإِجَارَةِ.
(٢٩٤٢) الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجَائِحَةَ كُلُّ آفَةٍ لَا صُنْعَ لِلْآدَمِيِّ فِيهَا، كَالرِّيحِ، وَالْبَرْدِ، وَالْجَرَادِ، وَالْعَطَشِ؛ لِمَا رَوَى السَّاجِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْجَائِحَةِ.» وَالْجَائِحَةُ تَكُونُ فِي الْبَرْدِ، وَالْجَرَادِ، وَفِي الْحَبَقِ، وَالسَّيْلِ، وَفِي الرِّيحِ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ الرَّاوِي لِكَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، فَقَالَ الْقَاضِي: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَمُطَالَبَةِ الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَةِ الْجَانِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، بِخِلَافِ التَّالِفِ بِالْجَائِحَةِ. (٢٩٤٣) الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْجَائِحَةِ وَكَثِيرِهَا، إلَّا أَنَّ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَلَفِ مِثْلِهِ، كَالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَنْضَبِطُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إنِّي لَا أَقُولُ فِي عَشْرِ ثَمَرَاتٍ، وَلَا عِشْرِينَ ثَمَرَةً، وَلَا أَدْرِي مَا الثُّلُثُ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ جَائِحَةٌ تُعْرَفُ؛ الثُّلُثُ، أَوْ الرُّبْعُ، أَوْ الْخُمْسُ، تُوضَعُ. وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ مَا كَانَ يَعُدْ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْكُلَ الطَّيْرُ مِنْهَا، وَتَنْثُرَ الرِّيحُ، وَيَسْقُطَ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَابِطٍ وَاحِدٍ فَاصِلٍ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْجَائِحَةِ، وَالثُّلُثُ قَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ اعْتَبَرَهُ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا؛ الْوَصِيَّةُ، وَعَطَايَا الْمَرِيضِ، وَتَسَاوِي جِرَاحِ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَحْمَدُ: إنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الثُّلُثَ فِي سَبْعَ عَشَرَةَ مَسْأَلَةً. وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوَصِيَّةِ: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) . فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ آخِرُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَلِهَذَا قُدِّرَ بِهِ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ. وَمَا دُونَ الثُّلُثِ دَاخِلٌ فِيهِ، فَيَجِبُ وَضْعُهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الثَّمَرَةَ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهَا، فَكَانَ مَا تَلِفَ مِنْهَا مِنْ مَالِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، كَاَلَّتِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَكَلَهُ الطَّيْرُ أَوْ سَقَطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يُسَمَّى جَائِحَةً، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَهُوَ مَعْلُومُ الْوُجُودِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ، فَكَأَنَّهُ مَشْرُوطٌ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَضَعَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ. فَإِنْ تَلِفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute