لا يرى الدنيا إلَّا هباءً منثورًا، ولا يدري كيف يجلب الدرهم فرحًا والدينار سرورًا، ولا ينفك يتلو القرآن قائمًا وقاعدًا، راكبًا وماشيًا ولو كان مريضًا معذورًا.
وكانت دعواته تخترق السبع الطباق، وتفترق بركاتها فتملأ الآفاق، وتسترق خبر السماء وكيف لا! وقد رفعت على يد ولي الله تفتح له أبوابها ذوات الأغلاق.
وكانت يداه بالكرم مبسوطتين لا يقاس إلَّا بحاتم، ولا ينشد إلَّا:
"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"
ولا يعرف إلَّا العطاء الجزل:
"وتأتي على قدر الكرام المكارم"
يد تلوح لأفواه تقبلها … فتستقل الثريا أن تكون فما
وللمعاني الحسان الغر تكتبها … بأحسن الخط لمَّا تمسكُ القلما
وللعفاة لِتُولِيهمْ عوائدها … فلا يرى الغيث شيئًا لو وفى وهَمَى
وللدعاء طوال الليل يرفعها … إلى الإله لِيُولِينَا به النعما
أعظم بها نعمًا كالبحر ملتطِمًا … والغيث منسجمًا والجود منقسمًا (١)
يواظب على القرآن سرًّا وجهرًا، لا يقرن ختام ختمة إلا بالشروع في أخرى، ولا يفتتح بعد الفاتحة إلَّا سورًا تترى.
مع تقشف لا يتدرَّع معه غير ثوب العفاف، ولا يتطلع إلى ما فوق مقدار الكفاف، ولا يتنوّع إلا في أصناف هذه الأوصاف.
يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا، وقيامًا لله لا يفارقه أحيانًا، وبكاء يفيض من
(١) هذه الأبيات لولده تاج الدين السبكي، نظمها في مدح أبيه التقي السبكي، انظر: "معجم الشيوخ" للتاج السبكي (١/ ٢٨٠).