اعلم أن اللَّه تبارك وتعالى قد شرَّف بقاعًا على بقاع، ومواضع على مواضع، وشرَّف أمكنة بفضائل متعددة، وأخرى لا نصيب لها من أي فضيلة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، وليست العبرة بذكر هذه الفضائل وحسب، إنما بانتفاع الإنسان بها، والحرص على الخير أينما حلّ وارتحل.
فلو جاور عند الكعبة وهي أشرف البقاع وعمد إلى المعاصي وغفل عن الطاعات فإنه لا ينتفع بشرف هذه المجاورة؛ فالفضل الذي لا خلاف فيه إنما يكمن في طاعة اللَّه وطاعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أي مكان كان، في أي بقعة كانت.
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: الإقامة في كل موضع يكون الإنسان فيه أطوع للَّه ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له، أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة اللَّه ورسوله دون ذلك. هذا هو الأصل الجامع؛ فإن أكرم الخلق عند اللَّه أتقاهم.
والتقوى هي: ما فسّرها اللَّه تعالى في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .} إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(٣)، وجماعها فعل ما أمر اللَّه به ورسوله، وترك ما نهى اللَّه عنه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان، فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل إذا كان مجاهدًا في سبيل اللَّه بيده أو لسانه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلَّت حسناته، ولم يكن فيها مجاهدًا، وإن كان أروح قلبًا، وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع.