وقال أبو حنيفة: لا يجب مطلقًا، وقال الشافعي في "الأم": يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به، بخلاف المسجدين الأخيرين، وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي. وقال ابن المنذر: يجب إلى الحرمين، وأما الأقصى فلا، واستأنس بحديث جابر أن رجلًا قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إني نذرت إن فتح اللَّه عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، قال: "صل هاهنا". وقال ابن التين: الحجة على الشافعي أن إعمال المطي إلى مسجد المدينة، والمسجد الأقصى، والصلاة فيهما قربة، فوجب أن يلزم بالنذر، كالمسجد الحرام انتهى. وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره، محله كتب الفروع، واستدل به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها؛ لأنها لا فضل لبعضها على بعض، فتكفي صلاته في أي مسجد كان، قال النووي: لا اختلاف في ذلك، إلا ما روي عن الليث أنه قال: يجب الوفاء به. وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين، ولا ينعقد نذره، وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم، وإلا فلا، وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأتيه كل سبت كما سيأتي. قال الكرماني: وقع في هذه المسأله في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة، وصنف فيها رسائل من الطرفين، قلت: يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيمية، وما انتصر به الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي وغيره لابن تيمية، وهي مشهورة في بلادنا، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبًا، لا أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال، وَأَجَلَّ القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع، واللَّه الهادي إلى الصواب. قال بعض المحققين: قوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد" المستثنى منه محذوف، فأما أن يقدر عامًّا فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك. لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة، وصلة الرحم، وطلب العلم، وغيرها، فتعين الثاني، والأولى أن يقدر ما هو =