وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ، وَرَأَى البَيْتَ المعْمُورَ وَإِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ بَانِي الكَعَبَةِ الأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهَرَهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الملَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؛ وَرَأَى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَفَرَضَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خُمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ؛ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ.
وَفِي هَذَا اعْتَنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ المقْدِسِ، وَهَبَطَ مَعَهُ الأَنْبيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصَّبْحُ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ بَيْتُ المقْدِسِ، وَلَكَنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دَخُولِهِ إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ؛ لأَنَّهُ لمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللائِقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إلَى الجَنَابِ العُلْوِي لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لمَّا فَرَغَ مِنَ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ، اجْتَمَعَ هُوَ وَإِخْوَانُهُ مِنَ النَّبِيينَ صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ -عليه السلام- لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ المقْدِسِ فَرَكِبَ البُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ (٥) وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا عَرْضُ الآنِيَةِ عَلَيْهِ مِنَ اللبَنِ وَالعَسَلِ، أَوِ اللبَنِ وَالخَمْرِ، أَوِ اللبَنِ وَالماءِ، أَوِ الجَمِيعِ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ فِي بَيْتِ المقْدِسِ، وَجَاءَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، لِأَنَّهُ كَالضِّيَافَةِ لِلْقَادِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ كَانَ الإِسْرَاءُ بِبَدَنِهِ -عليه السلام- وَرُوحِهِ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى
(٥) الغَلَسُ: ظلام آخر الليل، وقيل: الغلس أول الصبح حتى ينتشر في الآفاق، وكذلك الغبس، وهما سواد مختلط ببياض وحمرة. "لسان العرب": غلس.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute