وعليه ختم البخاري "صحيحه" أيضًا، فما أحسن الفاتحة والخاتمة، وهذا من لطائف أهل العلم في التأليف، كما ختم سيدي الوالد -دام مجده الطارف والتالد- بعض مؤلفاته على لفظ "انتهى" وبعضها على لفظ "آخره".
ثم إن هذا الكتاب العظيم القدر، الرفيع الذكر، جمع -مع وجازته في العبارة، وتجوزه في الإشارة من المباني والمعاني- ما لا يأتي عليه الحصر والإحصاء، ولا يتطرق إليه أفهام الأذكياء الأجلاء، وفضله أشهر من أن يذكر، وشهرته أزيد من أن تحصر، وقبوله أكبر من أن يحرر.
وأيسر ما يقال فيه إن مدحه قدح، وقدحه مدح، كيف وقد قال مؤلفه - رضي الله عنه - في وصفه ما نصه "حررته تحريرًا بالغًا، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغًا، ويستعين به الطالب المبتدي ولا يستغني عنه الراغب المنتهي" وهو كما قال، وبلوغ في التحرير لأمور:
منها عزوه الحديث إلى من خرَّجه بقوله "أخرجه فلانٌ عن فلان" وهذا القول من البيان، لا بد منه لطالب معرفة هذا الشأن، فإن الحديث الذي لا يذكر له مخرجه كجملٍ بلا زمام.
ومنها تكثيره لذكر المُخرِّجين له، زيادة على أصحاب الأمهات الست، وعدم تقصيره على ذكرهم أو بعضهم.
ومنها تسميةُ من صحّحه أو حسّنه أو ضعفه من الأئمة وحفاظ الأمة، وهذا هو روح علم الحديث، وعليه مدار الحكم الشرعي وتمييز السليم من السقيم.