يعتد الشاعر بنفسه ويسمو بها عن النعماء والبأساء فيقول:
قد عِشْتُ في الناس أطواراً على طرُقٍ ... شتى وقاسيتُ فيها اللينَ والفَظَعا
كُلاِّ بلوتُ، فلا النعماءُ تُبْطِرُني ... ولا تخّشْعتُ من لأوائها جَزَعا
لا يملأُ الهوْلُ صدْرِي قبلَ موقِعه ... ولا أضيقُ به ذَرْعا إذا وَقَعاَ
ويعتز بشرفه وقوته وإبائه الضيم فيقول:
وكنت إذا قوم رمَوْني رميتهم ... فهل أَنا في ذَايالََ هَمْدَانَ ظاَلِمُ
متى تجِمَع القلبَ الذَّكِيّ وَصارِماً ... وَأنفاً حَمِيَّا تَجْتَنبِكَ الَمظَالِمُ
ويمدح رجل قوماً فيقول (انهم كالحجر الأخشن إن صادمته آذاك وإن تركته تركك)
ويقول أميرهم: (والله ما يسرني أني كُفيتُ أمر الدنيا كله قيل ولم أيها الأمير، قال لأني أكره عادة العجز) إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة فأدبهم تام الرجولة، قد شعت فيه الحياة، وامتلأ بالقوة، حتى اللاهي الماجن كأبي محجن الثقفي: كان يغازل، وكان يشرب، ولكن إذا جد الجد وعزم الأمر كان رجلاً يبيع نفسه لدينه، ويبيع كل شيء لشرفه وشرف قومه.
ونستعرض الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام، فإذا هو غزل قوي لا مُيُوعة فيه، ولا تخنث، لا يذوب صبابة، ولا يلتاع هياماً، ولا يفقد الرجل فيه رجولته لحبه
وقلتُ لقلبي حين لجَّ به الهَوى ... وكلَّفنِي مَا لاَ أُطِيقُ منَ الْحُبِّ
ألا أيُّها القلبُ الذي قادَهُ الهوَى ... أَفِقْ لاَ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ مِنْ قَلب
وما أنا بالنّكْسِ الدَّنِيِّ وَلاَ الذِي ... إِذا صَدَّ عَنِّي ذُو الَموَدَّةِ أَحْرَبُ
وَلكنّني إِنْ دَامَ دُمتُ وَإِنْ يكُنْ ... لهُ مذْهَبٌ عَنِّي فَلِي عنْهُ مَذْهَبُ
ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب، وأنزلوا منزل العز والمنعة، تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل والكتب.
ثم توالت الأحداث وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم، وتفت في رجولتهم حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً يذيق بعضهم بأس بعض، فكانوا حرباً على أنفسهم بعد أن كانوا جميعاً حرباً على عدوهم -