المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة، وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاماً وقادة لخريجي العلم ووليدي السياسة - إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون فتحاً حربياً يعتمد على القوة البدنية وكفى، إنما يفتحون فتحاً مدنياً إدارياً منظماً، يعلمون به دارسي العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون الإدارة، ويلقون بعلمهم درساً على العالم أن قوة الخلق فوق مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس برجولتها.
هل سمعت عدلاً خيراً من أن يضرب ابن لعمرو بن العاص - وهو والي مصر - رجلاً مصرياً فيستحضره عمر بن الخطاب وابنه، ثم يأمر المصري أن يضرب من ضربه وأن يضع السوط على صلعة عمرو، ثم يقول له:(مذ كم تعبدتم الناس وقد ولتهم أمهم أحراراً). أو هل سمعت عطفاً على الرعية، وأخذ الولاة بالحزم كالذي روى أن معاوية قدم من الشام على عمر، فضرب عمر بيده على عضده فتكشف له عن عضد بض ناعم. فقال له عمر:(هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك!)
أو هل سمعت قولاً في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر (إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز الناس، فو الله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس) - أو هل رأيت حزماً في الإدارة كالذي فعله في مسح سواد العراق وترتيب الخراج، وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.
حقاً لقد كان عمر في كل ذلك رجلاً، ولئن كان هناك رجال قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالاً بجانبهم، فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلاً يخلق بجانبه رجالاً، فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالاً نفخ فيهم عمر من روحه كما نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح لنفسه في رجولته.
وكان أدبهم في ذلك العصر صورة صحيحة لرجولتهم يتغنون فيه بأفعال البطولة ومظاهر الرجولة.
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد