وننتقل بك أيها القارئ من حياة حماد الراوية وقد سقت لك بعض أخباره إلى حياة حماد آخر هو (حماد عجرد) وهو يفوق المرحوم صاحبنا عبثاً وزندقة، ولست أقصد من وراء هذا الحديث رواية أخبار الزنادقة، وإحياء ذكرى الزندقة، وفي عصرنا من يفوق من ذكرنا عبثاً واستهتاراً وزندقة وتفاخراً بالخروج على أنظمة البلد والمجتمع. ولكننا نقصد من وراء هذه الدراسة إظهار صورة من صور حياة الناس في ذلك العهد غامضة على كثير من القراء، ترينا لوناً من ألوان الحياة وفوضوية من تلك الفوضويات التي قوضت دعائم المجتمع العربي القديم.
وحماد عجرد الذي أريد أن أتحدث عنه هو أبو عمرو وقيل أبو يحيى حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي وقيل الواسطي. وبعد فلا تغرنك هذه الأسماء وهذا النسب الطويل العريض وتلك النسبة العربية التي تتحدث في الظاهر عن عربية أصيلة وفي الواقع غير ذلك. ولست بمبيح لك سراً إن قلت لك أن الرجل كصاحبه مولى من موالي سواءة بن عامر ابن صعصعة. شأن أكثر العابثين والمجان الذين ظهروا في هذا الوقت خاصة وقت تدهور السياسة العربية وتولي الملوك المترفين من بني أمية مقاليد الحكم في الإسلام. وفي بلد وإن كانت العروبة غالبة عليه غير أن العجمة كانت تبذر مفاسدها فيه وتؤسس نواديها في كل مكان.
لقد كان حماد عجرد على الرغم مما أتهم به من الزندقة سليط اللسان بذئ الكلام لا يقف أمامه في هذا الفن أحد. وقد عرف بشار بن برد وهو من المتهمين بالزندقة كذلك بأنه من أبذأ الناس لساناً وأنه من الهجائين والمقذعين في هجائهم. وكان مسرفاً في الهجاء حتى عجل بنهاية نفسه. ومع هذا الهجاء لم يتمكن من التغلب على حماد ولا من إسكاته وقطع انفاسه فكانت بينهما أهلج شديدة وكانت بينهما سباب وشتائم فقال حماد في بشار أهاج فاحشة جاء فيها بمعان غريبة وإقذاع فاقت حد الوصف حتى كان بشار يضج منه.
روى الصباح الكوفي قال دخلت على بشار بالبصرة فقال لي: يا أبا علي، أما أني قد