في مثل هذا اليوم من العام المنصرم سكن لسان وجف قلم وانقطع وحي. وفقد البيان الملهم والفكر المنير خسارة إنسانية لا يسهل العوض منها ولا العزاء عنها. والرافعي وأمثاله من عباقرة العلم والأدب والفن والمال، ثروة من ثروات الأمم لا تكتسب بالحيلة ولا بالإرث، وإنما هي نفثات من روح الله تنسم على الأنفس المختارة فتجعل طبيعتها بين النور والطين، ومنزلتها بين السماء والأرض، ورسالتها رفع الناس إلى الملائكة بالمجد، وتنزيل الملائكة على الناس بالخير. إذا جاء أجلهم عاد ذلك النور الإلهي إلى مصدره، وهو أشد ما يكون نزوعاً إليه وعلوقاً به؛ ثم لا ينبثق مرة أخرى إلا حين يأذن الله لخليقته أن تهتدي ولأرضه أن تصبح
لذلك كان أسى الأمم الداكرة الشاعرة على نوابغها أسى خالداً يستمر
في ذاكراتها، ويتجدد في ذكرياتها، ثم يتردد على عواطفها كلما صبت
إلى أمام فلم تجد الهداة، وهفت إلى فوق فلم تجد الأجنحة
على أن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش. ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعهاً من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!
كذلك عاش الرافعي ومات! وكذلك يعيش أشباهه ويموتون! وما حيلة الزهرة الفواحة إذا أنبتها القدر القاهر في فقار الأرض بين سفي الرمال ولفح السمائم؟
رحم الله الرافعي لقد كان في الكتابة طريقة وحده! وحسب الكاتب مزية ألا يكون لأسلوبه ضريع في الأدب كله. فإذا قيل لك إن الرافعي قديم الأسلوب في التفكير والتعبير فاحمل ذلك على الحسد الذي لا حيلة فيه، أو على الجهل الذي لا حكم معه. وتستطيع أن تتحدى من تشاء أن يدلك على كاتب يترسم الرافعي مواقع قلمه أو قدمه. إنما هي شنشنة من ضعاف الملكة وقاصري الأداة، يرمون من يجيد لغته بالتخلف، ومن يتعهد كلامه بالتكلف، ومن يؤثر أدبه بالمحافظة