كان القرن التاسع عشر عصر الآلات والاختراعات الصناعية، فحلت الآلة مكان اليد العاملة في معظم الصناعات، وحرم ملايين العمال من العمل اليدوي، وساد البؤس في الطبقات العاملة، واستمر هذا التطور طول النصف الأخير من القرن الماضي حتى استقرت الصناعة أخيراً على قواعدها الجديدة، وحل العمل النفي والآلي مكان العمل اليدوي.
واليوم نشهد انقلابا عظيما آخر في مصير الإنتاج العقلي؛ فقد كان (الكاتب) حتى أوائل هذا القرن أهم وانفس غذاء علي للطبقات المثقفة، وكانت قراءة الكتب المختارة أسمى وأمتع وسائل التربية والتهذيب والرياضية العقلية، ولكن التطورات العلمية والأدبية والاجتماعية التي حدثت منذ الحرب الكبرى كان لها اثر كبير في تطور الذوق الأدبي أو بعبارة أخرى في قيمة الكتب وفي مركز القراءة وميول القراء. وليس من ريب في أن الكتاب قد فقد اليوم كثيرا من سحره وقيمته المادية والاجتماعية، وقل الإقبال كثيرا على اقتنائه وقراءته، ولكن ذلك لا يعني أن منسوب القراءة قد هبط، فالقراءة بالعكس قد كسبت من هذا التطور بصفة عامة، وزاد منسوبها بلا ريب تبعا لازدياد نسبة المتعلمين في مختلف الأمم؛ وإذا كان الذوق الأدبي قد تطور وخسر الكتاب القيم كثيرا من قرائه، فان أولئك القراء تحولوا إلى ألوان جديدة من الأدب الحفيف والى قراءة الصحف والمجلات. والواقع أن الصحافة أول وأقوى العوامل الجديدة التي آثرت في مركز الكتاب ومدى انتشاره. ففي ربع القرن الأخير تقدمت الصحافة تقدماً عظيماً، وغزت كل ميادين التفكير والعلوم والفنون، ولم تبق دوريات خبرية فقط؛ ومعظم الصحف اليومية السياسية، في جميع الأمم، تخصص للأدب والنقد والعلوم والفنون والمسرح والاقتصاد والمالية والرياضة صحفا خاصة حافلة بمختلف البحوث والشذور القيمة، هذا عدا القصة الصغيرة اليومية، وعدا الرواية المسلسلة، وعدا الصور الكثيرة؛ ثم هنالك المجلات الأدبية والعلمية، الأسبوعية والشهرية، وقد بلغت مدى عظيما من التقدم والذيوع، وأضحت مسرحا لأعظم الاقلام، ومعرضا لمختلف البحوث وأهمها. وتمتاز المجلة على الكتاب بتنوع مادتها، فهي تجمع بين الفصول الأدبية والعلمية