يولد المرء جاهلاً ثم لا تزال التجارب تبصره بحقائق الحياة ولا يزال الدهر يعلمه ويؤدبه، ولا يزال هو بثاقب فكره، يتعظ بماضيه وينتفع بمشاهداته، ويصوغ من جزيئات التجارب التي يمر بها كليات يلخص فيها نواميس الحياة وطباع الأشياء، التي يجدر بالعاقل أن يسايرها ويحتال لها، لا أن يصادمها ويجري على غير سننها، وتلك هي الحكم التي هي لباب التجارب وثمار المعرفة، والتي يغتبط الأديب أي اغتباط حين يستخلص عصارتها من مرير الشدائد وعصيب الأزمات، ويتجلى له ضياؤها بعد أن تنقشع غيوم المطامع وعواصف المخاوف، ويتوارثها الناس جيلاً بعد جيل، وتتشكل مع اختلاف بيئاتهم وتقاليدهم، ويشدو بها الصغار وهم ناشئون ولا يعرف صدقها إلا الكبار، بعد أن يخوضوا أتون التجارب الذي ينضج النفوس.
فالحكمة خلاصة التجربة العلمية، ولا تقرأ في الكتب ولا تؤخذ عن المؤدبين. ومن ثم يستوي فيها الخاصة المثقفون والعامة الأميون، إذ كان كلاهما يستقي من معين الحياة المشهودة؛ وتذيع بين العامة أمثال وحكم هي غاية في الصدق ونفاذ النظرة وبلاغة التعبير. وقد يطابق بعضها أمثال الخاصة والحكماء في كتبهم؛ وتدل تلك الحكم السائرة بين الشعب على الكثير من أخلاقه وأعماله، من سعي وتوان، ووقار واستهتار، وإمعان في الحروب واستراحة إلى السلم والدعة، ومن ثم نرى كثيراً من الأمثال المتخلفة عن جيل الانحطاط الماضي، رغم صدقها وعمقها مصوغة في أبذأ لفظ وأفحش صورة، ونرى كثيراً منها يحث على القناعة والتواكل والقعود.
ومن الحكم ما نرسل موجزة مستقلة كأنها القضايا المنطقية مبدوءة ببعض حروف الشرط أو أسمائه، ومنها ما تصاغ في قصة محكمة ذات مغزى، ومن تلك القصص ما ينسب إلى حكيم من الأقدمين كلقمان، أو إلى شخص خيالي مثل جحا الذي صاغ العمة حوله قصصاً بالغة غاية الحكمة والمتعة والفكاهة، ومن تلك القصص ما يجري على السنة الحيوان، ويقوم الأسد فيها بدور السلطان ويلعب الثعلب دور المكر والاحتيال، ويمثل الذئب دور