حياة ابن خلدون قصة من أعجب قصص الخيال، ومغامرة لم تتح لكثير من عظماء الرجال، لا يزال تراثه فريداً في بابه بين آثار التفكير الإسلامي، وما يزال يحتفظ بقيمته وروعته، ويتبوأ مكانته بين التفكير العالمي. وهانحن أولاء بدأنا نتبّه إلى رجالنا لنقدرهم قدرهم، وندرس آثارهم، ونحفظ لهم مكانتهم، ونحيي ذكرهم، بما أدخل من نظام المسابقات التي تعقدها وزارة المعارف لطلبة السنة التوجيهية في مواد الدراسة المختلفة، وكان منها دراسة مقدمة ابن خلدون. ونحن بهذا النظام نحيي ذكرى فيلسوفنا الاجتماعي الكبير، وقد مضي عليه أكثر من ستمائة عام، وهو على قدمه يجب أن يكون مثالاً عالياً لجميع الشباب، وأن يقرءوا مقدمته القيمة، فهي ثروة لا تقدر في تراث البيان الغربي، والتفكير العربي. على أن لابن خلدون صلة خاصة بنا نحن المصريين؛ فلقد كانت له بمصر جولات ونظريات، كما كانت مصر مئوي إقامته، وإن كانت تونس تفخر به لأنها مستهل ولادته. وحسب ابن خلدون فخراً أنه السابق إلى وضع مبادئ علم الاجتماع الذي ما زال موضع إعجاب الغرب وتقديره، ولست في هذه العجالة متعرضاً لنشأته، وتاريخ حياته فهي في متناول الطلبة. على أنه عني بنفسه فوضع ترجمة له دونها بقلمه، وصور فيها كثيراً من أطوار حياته، وما تقلد من مناصب، وما قام من رحلات ومغامرات.
بدأ ابن خلدون مؤلفه التاريخي العظيم وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد نضجت مباحثه ومطالعاته في الكتب والحياة بعد أن قطع نحو ربع قرن يخوض معترك السياسة متقلباً في خدمة القصور والدول المغربية يدرس شئونها ونظمها، ويستقصي سيرها وأخبارها متغلغلاً بين القبائل البربرية يدرس طبائعها، وأحوالها، وتقاليدها في الحياة العامة والخاصة، وقد أعانه على ذلك ذهنه الخصب المتوقد ذكاء، وعزلته في قلعة (سلامة) على حدود تونس الغربية فلقد كانت عزلة مباركة موفقة لبث فيها أربعة أعوام نعم بالاستقرار والهدوء المستمر بعيداً عن غمار السياسة والدسائس السلطانية والمخاطر التجوالية والحربية، وقد استغرن في كتابة مقدمته خمسة أشهر ثم نقحها وهذبها بعد ذلك ثم شرع بعد