لا تفهم يا قارئي العزيز أني أعقد لك فصلاً تاريخياً عن منظر من
مناظر القاهرة العظيمة في زمن ابن طولون أو في زمن الحاكم بأمر
الله أو في زمن قلاوون عليهم رحمة الله، فإني لا أكتب هنا إلا عما يقع
عليه منظاري. . . وإنما أنا محدثك عن منظر من مناظر هذه
العاصمة الكبيرة في القرن العشرين بل وفي عام ١٩٣٩ الذي أوشك
أن ينطوي على وجه التحديد.
ولا تتوهم أني فيما أصف لك أذهب بك إلى تلال زينهم أو إلى أعلى الدراسة أو إلى جوار المحمدي أو إلى ما وراء سيدي الحِلّي؛ فإنك قد تنكر على ما أقول لجهلك فيما أظن مظاهر العيش في هاتيك البقاع. . . على أنه لا يكون جهلك بها أكثر من جهلي.
وإن لك في أقرب شوارع المدينة غنية عن الذهاب إلى أطرافها فسر في شارع ماسبيرو على ضفة النيل أو في شارع شبرا حيث المدرسة التوفيقية أو في شارع الملكة نازلي أو حول حديقة الأزبكية وانظر ماذا ترى.
لاشك أنك رأيت هؤلاء الحلاقين الذين يتربعون على الأرض أو على الأسوار ويأخذون في حلق رؤوس زبائنهم ولحاهم في صورة تدعو إلى الاشمئزاز والأسف والضحك جميعاً.
وقفت على مقربة من أحدهم ورأيته وقد شمر عن ساعديه وأمسك بالموسى ودعا إليه من زبائنه الجالسين حوله من جاء دوره. ومثَل الرجل بين يديه وله لحية ما أحسبه أجرى الموسى عليها منذ مثل هذا اليوم من العام الماضي؛ ووضع الحلاق كفه في إناء بجواره فاغترف غرفة من الماء بيده ورشها على تلك الأشواك الكثيفة في وجه صاحبنا وأجرى عليها قطعة من الصابون، ثم شحذ الموسى على ذراعه بأن حكها بها عدة مرات في سرعة عجيبة ولما استيقن من مضيها راح يقطع هاتيك الأشواك، ثم يمسح ما تجمع منها على حافة سلاحه في ظهر يسراه أو يأخذها على سبابته ويقذف بها في الجو لا يبالي أين تقع ولا من يصيب برشاشها. . .