قد علم قراء كتبنا الأولى هذا الكتاب الحديث، وعلموا أننا بعد انتهائنا من درس الإنسان والمجتمعات ينبغي أن ننصرف إلى درس تاريخ الحضارات!
كان كتابنا الأخير (الإنسان والمجتمعات) مختصاً بوصف الأشكال المتتالية للأشكال الطبيعية والعقلية عند الإنسان، والمواد المختلفة التي تتألف منها المجتمعات. ولقد أوضحنا في ذهابنا إلى أقصى العصور الغابرة كيف تألفت الجماعات الإنسانية، وكيف تولدت الأسرة والمجتمعات، وجميع أصناف الفنون والمعتقدات، وكيف استحالت هذه المظاهر خلل العصور، وكيف كان مبدعو هذه الاستحالات!
وبعد أن درسنا الإنسان المنعزل وحركة المجتمعات، يجب علينا لكي يتم غرضنا الذي قصدنا إليه أن ندرس الحضارات الكبرى بحسب هذه المناهج التي عرضناها
أجل! إن المشروع واسع، ومشاكله كبيرة. لا نتكهن إلى أي مدى نستطيع أن نصل به. ونحن نريد أن يأتي كل كتاب من هذه الكتب كاملاً مستقلاً حتى إذا استطعنا أن ننجز الثمانية أو العشرة - بما يتم هدفنا به جاء عمل تصنيفها ودرس الحضارات المختلفة عليها أمراً يسيراً!
وقد بدأنا بحضارة العرب لأن حضارتهم جلتها لنا رحلاتنا وعرفتنا بهم تعريفاً حسناً؛ وحضارة العرب هي من الحضارات التي كمل سيرها، وظهر فيها تأثير المؤثرين ممن جربنا أن نحدد عملهم ونعين تأثيرهم، وهي تعد من الحضارات التي يشوق تاريخها ومع ذلك لبثت مهملة
إن حضارة العرب تسيطر - منذ أثنى عشر قرناً - على القطر الواسع الذي يمتد من شواطئ الاطلانطيك إلى البحر الهندي، ومن شواطئ البحر الأبيض حتى رمال أفريقية الداخلية، والشعوب والقبائل التي تسكنه تدين بدين واحد وتنطق بلسان واحد، وتتلقن تعاليم واحدة، وفنوناً واحدة، وهم يؤلفون جزءاً من المملكة
إن النظر نظراً شاملاً إلى مظاهر هذه الحضارة عند الشعوب التي سيطرت عليها، وأتت