لو تمثل هذا الربيع لكان إنسانا، ولكان شابا رائع الشباب، مشرق الطلعة، حلو الشمائل، معطاء اليدين، يملأ العيون والقلوب مهابة وجمالا. أفلا يرى القارئ تصديق هذا التصوير فيما يأخذه الحس والشعور من الطبيعة في أيامنا هذه من اعتدال جو وانبعاث شمس، وإيراق شجر، وتفتح زهر، وترنم طير، وتتابع خير؟ أفلا يرى أن كل مظاهر الطبيعة قد غدت ولسان حالها يصيح بمن يمر: ألا تراني فتفهم حكمة الخلق العجيب؟ ولكن وا رحمتاه للناس! انهم عن هذه الدعوة الكريمة في شغل شاغل، (وكآي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) لقد شغلوا بالعرض عن الجوهر، وبالسفساف الحقير عن الجميل الجليل. انهم يوشكون أن تموت قلوبهم ويغول نفوسهم الصفق بالأسواق.
رحم الله أسلافنا الأقدمين وآباء الأولين. لقد كانوا اقرب منا إلى الطبيعة، وأبر بهذا الربيع واحسن استقبالاً له. فالمصريون القدماء على شدة تفكيرهم في الحياة الآخرة، لم يهملوا الأخذ بأسباب التمتع في الحياة الدنيا. كانوا كلفين بالطبيعة، وحياة الطبيعة. وهل شئ أبهج للخاطر واسر للقلب من الطبيعة وحياة الطبيعة؟ لقد فتنوا بنهرهم المتدفق الوقور فقدسوه وعبدوه، وكلفوابالزهر حتى لقد اتخذوا منه رمزاً وشعاراً لملكهم السياسي، فكانت الزنبقة رمز مملكتهم الجنوبية، وزهرة النيلوفر رمز مملكتهم الشمالية. وصاغوا تيجان الأعمدة التي تنهض بعمائرهم على مثال برعمة السدر، والنيلوفر، ورؤوس النخيل. وكانوا يحتفلون لمقدم الربيع احتفالاً بقيت لنا منه آثار نلحظها في عيدنا الطبيعي الوحيد المعروف (بشم النسيم).
وكان الفرس القدماء من اشد خلق الله حباً للزهر والماء والجو الطلق، لذلك جعلوا (النيروز) الذي هو أول الربيع اعظم أعيادهم، واسبغوا عليه هالة من التقديس والإجلال، فزعموا أن الله فرغ فيه من خلق الخلائق، وانه يقسم فيه السعادة لأهل الارض، ولذلك سموه (يوم الرجاء)، ولفرط شغفهم بالربيع كانوا إذا هجم الشتاء ألح على بلادهم المطر والبرد والثلج إعتاضوا عن مناظر الربيع الطبيعية بصور لها قد وشيت بها بسطهم