حينما قلت: إن المتنبي يعني طرابلس الشام لا الغرب في بيته:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس
لم أبن رأيي على الحدس والتخمين ولكن بنيته على حقائق لا يتطرق إليها الشك، وإليه البيان:
١ - منذ خروج المتنبي ببادية السماوة إلى اتصاله بسيف الدولة سنة ٣٣٧هـ لم يمدح غير رجالات الديار الشامية
٢ - بعد انفصاله عن سيف الدولة انحصرت جولاته بين الفسطاط غربا، وشيراز شرقا، ولم يعرف عنه أنه زار طرابلس الغرب أو مدح أحدا من أهلها ولو بطريق المراسلة، بل لم يعرف عنه أنه مدح أحدا من المغاربة، وهذا ديوانه - وكل قطعة منه جزء من حياته - شاهد بذلك
٣ - حينما مدح المتنبي عبيد الله بن خلكان الأمير الطرابلسي الشامي كان في سن صغيرة، فلم يكن هناك مجال لشاعر ناشئ مغمور أن يتصل بغير الأقربين من أمراء بلده وسرواتهم
جاء في الديوان:(وقال في صباه ارتجالا وقد أهدي إليه عبيد الله بن خلكان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل)
ومن هذه المقطوعة قوله:
هدية ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
أقل ما في أقلها سمك ... يسبح في بركة من العسل
وجاء في الديوان (وقال أيضا يمدحه)
وأورد القصيدة السينية التي منها البيت موضوع الخلاف
ومعنى هذا كله: أن المتنبي عرف آل خلكان صبيا، وأنه زارهم في طرابلس الشام ومدحهم ورآهم رأى عين وصلته هداياهم، وهذه الهدايا - كما يؤخذ من وصفها - مما يحمله الخدم، إذ غير معقول أن هذه الإلطافات الصغيرة الرقيقة الرشيقة التي تؤكل لوقتها وتفسد بعد زمن قصير، ترسل من طرابلس الغرب على متون السفن إلى بحر المشرق