يعيش وزوجته في بيتي عاملين أجيرين. ودهش الضيف لهذا الخبر وهز رأسه قائلا - حقا إن الدهر دولاب يدور، فتارة يرفع هذا إلى أعلى عليين، وتارة يخفض ذاك إلى أسفل سافلين. ولكن قل لي ألا يندب هذا الكهل سالف مجده، ويبكي سابق عزه؟ فقال محمد شاه - علم ذلك عند ربي، ولكن مظهره ومنظره يؤكدان عكس ذلك، فهو إنما يشدو بذكر خالقه، ويترنم بفضل رازقه، فقال الضيف - هل أستطيع أن أتحدث إليه - بودي أن أسأله سؤالا أو سؤالين. . .
فنهض محمد شاه ونادى إلياس ودعا زوجته للانضمام إلى المجلس فدخل إلياس وحيا وجلس بقرب الباب وهو يتمتم بالصلاة. وتبعته الزوجة وجلست وراء الستار مع سيدتها. وبعد أن استتب بهم المقام نظر الضيف إلى إلياس متأملا ثم سأله قائلا - قل لي يا عماه ألا يبعث فيك مرآنا شعورا بالأسى واللوعة؟ لا شك أن هذا المجلس يعيد إلى ذهنك أيامك الخوالي ويذكرك بحالتك الراهنة، وتبسم إلياس ثم قال - لو شئت أن أخبرك ما هي السعادة الحق وما هي التعاسة المرة
لما آمنت بصدق قولي وحسبتني كاذبا مماريا وأرى من الخير أن تسأل عن ذلك زوجتي فهي امرأة وما في قلبها يفضحه لسانها. أسألها ما شئت وستخبرك بالحقيقة غير منقوصة
والتفت الضيف إلى ناحية الستار وقال - حسنا يا أختاه، هلا أخبرتنا عن حقيقة شعورك؟ فردت عليه الزوجة من وراء الستار حبا وكرامة، فأصغ جيداً إلى ما أقوله - (خمسون عام عشتها وزوجي نبحث عن السعادة ونفتش عنها، ولكننا لم نجدها أو نذق لها طعما إلا في هاتين السنتين بعد أن فقدنا كل ما نملك، وزالت عنا أسباب النعمة وبتنا أجيرين فقيرين؛ وهي والله حال لا نبغي أفضل منها ولا أحسن)
ودهش الجميع بهذا القول ومن جملتهم محمد شاه. بل لقد بلغت منه الدهشة أنه تقدم من الستار وأزاحه ليرى وجه الزوجة، فإذا به منتصبة وقد طوت يدها على صدرها، وتعلقت عيناها بعيني زوجها، وعلت شفتيها ابتسامة رضية. . وتابعت الزوجة قولها (نعم أيها السادة نصف قرن قضيته أنا وزوجي بحثا عن السعادة، ولكنها تنكبت طريقنا طيلة أيام عزنا وغنانا. . فلما أن دالت دولتنا وذابت ثروتنا وشمرنا عن ساعد الجد والعمل، إذا بها تنقاد إلينا وتعمر قلبينا، ولسنا نرضي عنها اليوم بديلا).