ولم يلبث الأكبر أن قتل في مشادة، واختلف الأصغر مع والده بتأثير من زوجته الخبيثة وطلب الانفصال عنه. فأعطاه الوالد بيتا وقسما من ماشيته، فقلت بذلك ثروته. ولم تلبث النكبات بعد ذلك أن أخذت تتوالى عليه متعاقبة. فتفشى المرض بين الماشية وقضى على معظمها، وتلا ذلك سنوات عجاف أجدبت فيها مواسم الحصاد، ومات ما تبقى لديه من ماشية. وهكذا أخذت ثروته تذوب شيئا فشيئا بعد أن طوى عهد الشباب والقوة وأعجزه الكبر وجاء يوم وهو على أبواب السبعين من عمره، باع فيه كل ما يملك، ووجد نفسه وجها لوجه أمام الفقر والعوز. وكانت أبنته قد ماتت وأبنه الذي انفصل عنه قد ارتحل إلى بلاد نائية، فلم يكن هناك من يحتضنهما ويدفع عنهما غائلة الجوع، ولم يجدا لكسب معيشتهما سبيلا إلا أن يطرقا باب الخدمة والعمل
وكان لهما جار يدعى محمد شاه، فأخذته الشفقة عليهما وتذكر سابق نعمتهما، فدعاهما إليه وعرض عليهما الخدمة عنده قائلا: تعاليا واسكنا في بيتي، وإن شئتما عملا يمكنكما أن تعملا في حقل البطيخ صيفا، وفي الشتاء ترعيان ماشيتي. وسأقدم لكما مقابل ذلك الغذاء والكساء والمأوى، ولن أمنع عنكما أية حاجة تسألانها
وقبل إلياس وزوجته عرض جارهما الطيب والتحقا بخدمته كعاملين. وشق الأمر عليهما بادئ ذي بدء، ولكنهما تذرعا بالصبر وانصرفا إلى العمل بإخلاص قانعين راضيين. ووجد محمد شاه فيهما خير عاملين إذ كانا يعرفان ما ينتظره السيد من مخدومه من نشاط وإخلاص، فكانا يعملان ما تسمح به قوتهما دون تذمر أو تأفف. ولكن محمد شاه كان يحزنه في الوقت نفسه أن يرى كيف ذل إلياس، بعد عز، وافتقر بعد بحبوحة، واتضع بعد رفعة
وحدث يوما أن هبط على محمد شاه بعض الأقارب قادمين من بلاد بعيدة لزيارته. فرحب بهم وأحسن وفادتهم. وبعد أن أكلوا وشربوا جلسوا يتحدثون ويتسامرون. وبينما هم في حديثهم إذمر إلياس أمام الباب في طريقه إلى غرفته. ووقعت عينا محمد شاه عليه فالتفت إلى ضيوفه وقال لهم - هل رأيتم ذلك الكهل الذي مر الآن من هنا؟ فرد عليه أحدهم بقوله - نعم، وماذا في ذلك؟ قال لاشيء سوى أنه كان أغنى رجل في الجوار وهو يدعى إلياس، ولا بد أنكم سمعتم باسمه. فصاح الضيف: طبعاً، ومن لم يسمع باسمه وقد طبقت شهرته الآفاق؟ فقال محمد شاه - هذا صحيح، ولكنه اليوم لا يملك ثاغية ولا راغية، وها هو ذا