كان عمر كما قلت لك يعرف من أمر قريش ما قد يعرفه غيره من الناس، ولكنه كحاكم فيلسوف خبر طبائع النفوس، كان يدرك أن قريشاً كالطفل المدلل لا تنفع معه كلمات الزجر ولا تحول دون رغباته ألفاظ التأنيب، وإنما يصلح أمره بالحكم الحازم واللقاء الصارم، و (الدرة) التي لا تفرق حين تعلو الرءوس وبين كبير وصغير. وكان يخشى الفتنة التي يخشاها هي ما يعرفه عن قريش من حب للسيطرة ورغبة في الاعتلاء، وطموح لا يقف عند حد في سبيل فرض الكلمة على غيرها من الناس. وأي فتنة أشد خطرا وأبعد أثرا من أن نلغي الأرستقراطية القرشية شعار الدعوة ودستور الإسلام: وهما لا فضل لعربي عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم؟ إن الإسلام لم يعترف بفضل غير فضل الجهاد ولا بمنزلة غير منزلة التقوى، ولا بجاه غير جاه الدين، ولا بسلطان غير سلطان العدل والمساواة. . فإذا كانت قريش لا تريد أن تعترف إلا بعزها في الجاهلية ومكانتها في الإسلام وقرابتها من الرسول، فهذه هي الفتنة التي كان يخشاها ويقدر عواقبها في تشتيت الشمل وتفريق الكلمة وتصدع البناء. ومن هنا وقف ابن الخطاب في وجهها بكل ما أوتى من حزم الحاكم وحكمة الفيلسوف: الدرة في يمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون!!
بهذه الفلسفة الحاكمة وبعد وفاةأبيبكر، واجه عمر كبرياء السادة من قريش. . عزل خالدا من القيادة والمعركة دائرة ليضع في مكانة أبا عبيده بن الجراح، لأنه لم ينس لابن الوليد تلك الهفوة التي أقدم عليها يوما مطمئنا إلى سماحة الصديق، وحتى لا يكون كما سبق أن قلت قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين، ولعله قد أراد أن يكبح جماعة ليكون عبرة لأمثاله من الجامحين. ولم يكتف بهذا بل أخذ يراقبه ليقضى على البقية الباقية فيه من زهو الكبرياء القرشية، وليجعل منها آخر الأمر قوة منهوكة لا تكاد تؤمر حتى تطيع. ويقص علينا التاريخ أن عمر دخل المسجد ذات يوم فوقعت عيناه على خالد وقد رشق في قلنسوته عددا من السهام، مختالا كما يختال بريشة المنقوش كل طاووس من الطواويس. . وتمتد بين عمر بالدرة ليعلو بها رأس هذا الطائر المختال، وتمتد شماله لنزع السهام ملقية بها إلى خارج المسجد وأن يسمع كلمة اعتراض، ويهتف الجبار العادل في صرخة خالدة: إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولن تزهي قريش وفي ابن الخطاب عرق